وجدي حيدر وجدي حيدر

الاشتراكية لا بد منها (2 من 2)

لا يقوم في المجتمع البشري شيء على أساس الإرادة فقط أو قوة قاهرة غير مدركة الجوهر، بل نتيجة قوانين موضوعية وحاجة موضوعية، ولا علاقة لهذه القانونية بالإرادة الفردية التي تتجلى في العمل اليومي. ويبدو أن شيوعيي ما بعد لينين وقعوا في هذا الوهم من خلال تمجيد الإرادات الفردية للقادة وإظهارها فوق إرادة الطبقة العاملة وجماهير الشعب، وبذلك أعطت هذه الجوقة «الاشتراكية» الصفة الإرادوية للاشتراكية قبل أعدائها، بينما في حقيقة الأمر تحققت ثورة أكتوبر في روسيا بإرادة الطبقة العاملة وكافة الشغيلة، وبإرادتها تحققت مرحلة هامة من الاشتراكية في التطبيق العملي، ونعتقد أن الفكر البشري عامة يعتبر إرادة الطبقات والشعب هي في الوقت نفسه إرادة التاريخ. يقودنا هذا كله إلى تقييم التجربة الاشتراكية السوفييتية وأسباب انهيارها بهذا الشكل المأساوي تقييماً موضوعياً نقدياً بعيداً عن منطق «عدم كشف أسرار القبيلة» فالفكر لا يخضع للمسائل الأمنية، وعندما خضع الفكر الماركسي للمسائل الأمنية، أمن الدولة الاشتراكية أو أمن الحزب أصبح فكراً سطحياً بيروقراطياً. وهذا التقييم النقدي الجريء ضروري من أجل ألا يبقى الفكر الاشتراكي رهن التجربة السوفيتية حصراً.

أعتقد ثمة عوامل عديدة أضعفت جاذبية الفكر الاشتراكي لدى الشغيلة والقسم الأعظم من شيوعيي اليوم وخلق لديهم هذا فوضى اللا منتمي. وربما يكون في مقدمتها ثلاثة عوامل رئيسية: العامل الأول: لا شك هو انهيار النظام الاشتراكي السوفييتي، الذي اعتبره الجميع (مؤيدين ومعارضين) النموذج الاشتراكي الأمثل (كان النظام الاشتراكي الصيني منحرفاً عن الماركسية اللينينية). لا شك أن هذا الانهيار بالنسبة للمطلع على الفكر الماركسي اللينيني له دلالة كبيرة. فماركس هو القائل أن البرهنة على صحة فكرة ما، يجب مقارنتها بالواقع وليس بفكرة أخرى. وبما أن النموذج السوفييتي انهار من خلال واقعه، يعني ذلك انهيار المشروع برمته.

إن انهيار المشروع أدى إلى انهيار كل الذين لم يستطيعوا فهم الاشتراكية إلا من خلال هذا النموذج . كما أن الذين حاربوا الفكر الاشتراكي، كانوا يحاربونه من خلال هذا النموذج، ولهذا سارع هؤلاء قبل الجميع إلى الاستنتاج بأن الانهيار الراهن هو شامل يمس النظام والفكر والمستقبل «سواء جهلاً بالفكر الاشتراكي أم لغاية أيدلوجية».

أما العامل الثاني: فهو مركب من أولئك الذين مثلوا الفكر الاشتراكي ذا النموذج السوفييتي ولعبوا الدور الأساسي في العملية التنفيذية لانهيار هذا النظام أو انهاروا مع انهياره، وبالتالي ركضوا إلى الفكر الإمبريالي النموذج الأمريكي بتسارع كبير مع إحداث ضجة كبيرة لتخليهم عن الفكر الاشتراكي.

والثالث جسده أولئك الشيوعيون المدافعون عن النموذج السوفييتي بدوغمائية فكرية وسياسية اعتمدت على منطق تبريري متميز، واستمر هذا المنطق الدوغمائي باعتبار الانهيار جاء نتيجة مؤامرة دولية لا أكثر.

 عموماً نجد هؤلاء الاشتراكيين، شيوعيين بالشعار والجملة الثورية وبات معروفاً أن هذا السلوك يخفي الانهيار الذي في داخلهم.

ومن خلال كتاباتهم وأقوالهم وخطبهم يعزون ابتعاد الشغيلة عن أحزابهم وأفكارهم «الاشتراكية» في عدم معرفة هذه الشغيلة لمصلحتها ، وليس في كونهم ما عادوا يجسدون المصالح الحقيقية لهذه الشغيلة.

باعتقادي، إذا أردنا البرهنة على موضوعية أو عدم موضوعية الفكر الاشتراكي، لا بد الانطلاق من إعادة الفكر الاشتراكي من حيازات الشيوعيين البيروقراطيين المدرسيين الدوغمائيين إلى أحضان الشغيلة وممثليها الفعليين، عندئذ سيتحول الفكر الاشتراكي من جديد إلى الوجود التاريخي والراهن والمستقبلي للشغيلة وكل المضطهدين في العالم.

إن ما يسيء إلى الفكر الاشتراكي اليوم خصوصاً في العالم العربي أن غالبية القسم المدافع عنه هو القسم المنمذج والبيروقراطي الحزبي. وتتجلى شيوعية هؤلاء غالباً في الاجتماعات الحزبية الرسمية والندوات العامة أو في المقابلات الصحفية أو التلفزيونية، وعدا عن ذلك فهم لا يختلفون عن أي انتهازي في العالم الثالث يسعى إلى الاستفادة الخاصة من كل الفرص المتاحة له حتى لو كانت تمس الأخلاق والقيم.

وهناك مسألة هامة، وهي عودة الاشتراكية إلى ساحة الشعوب كمشروع إنساني ينقذ البشرية من الكارثة الرأسمالية، إن هذه العودة لن تتم إلا من خلال جيل جديد يتوحد فيه الفكر الاشتراكي مع القيم الإنسانية العظيمة والسلوك الشخصي اليومي البعيد عن النفاق والكذب والتحايل والتلفيق والإدعاء... إلخ. فجيل هذا المحتوى وهذه الصفات هو الوحيد القادر على تحويل الفكر الاشتراكي إلى واقع معاش وبناء مجتمع إنساني، هو خلاصة ما يفكر به الإنسان الموضوعي.

 

وعند هذا الجيل ستنهار هذه الفوضى الفكرية التي تجتاح عقول غالبية شيوعيي ومفكري مخلفات القرن العشرين.