هل العالم سوق للمضاربة، وكازينو للمقامرة؟
سواء في أوروبا الغربية أم في الولايات المتحدة، جعلت الأوساط الحاكمة من الديمقراطية وسيلة، وذريعة، لفرض السوق الرأسمالية على بلدان العالم، فالخصخصة وسياسة السوق المفتوحة، وما ينتج عنهما من لا مساواة وتعميق للفوارق والتفاوت في التطور والنمو، هما التجسيد العملي للديمقراطية على الطريقة الأميركية التي لا تنهض منفصلة عن السوق الدولية الرأسمالية وتفرض حرية التملك وإقامة المنشآت والشركات على حساب المصلحة الوطنية. إن حكومات أوروبا الغربية والولايات المتحدة لا تعترف بديمقراطية أية دولة إذا لم تحرّر تجارتها، أي إذا لم تطلق يد الشركات الدولية المتعدّدة الجنسية في بلادها، وبالطبع فإن اقتصاديات هكذا دولة سوف تكون مجرّد لقمة سائغة تبتلعها الشركات العملاقة المتوحشة. ومن الأمثلة الحيّة على ارتباط هذه الديمقراطية بالسوق الرأسمالية أن مؤشر داو جونز، أو أي مؤشر محلّي بديل، أصبح هو المقياس لنجاح أية أمة، فهبوط البورصة وصعودها في بلد ما هو الدليل على تقدّم المجتمع أو تأخره، وهكذا حوّلت الديمقراطية الأميركية العالم إلى سوق للمضاربات، وإلى ما يشبه الكازينو الذي تتحرّك فيه النقود بسرعة على الموائد الخضراء!
الأثرياء يستأثرون بالمصطلح الجميل!
لقد تغيّر الوضع كثيراً عن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كنا في الخمسينات نعوّل على الديمقراطية في تحقيق تطورنا ونمونا واسترداد حقوقنا المسلوبة، ففي ذلك التاريخ كان عدد سكان العالم أقل من نصف عدده الحالي، وكان عدد سكان سورية على سبيل المثال أقل من ربع عددهم الحالي، وكان الأثرياء المحافظون، سواء في البلدان الثرية أو الفقيرة، ينظرون إلى الديمقراطية نظرة خشية وارتياب، لأنها قد تمكّن الفقراء من الاستيلاء على ثرواتهم، وبناء على ذلك كان بعضهم يشجع المغامرات العسكرية وقيام الأنظمة الديكتاتورية، غير أن العقود الأخيرة برهنت أن الديمقراطيات يمكن أن تكون للأثرياء وحدهم، ولم يعد هذا المصطلح الجميل يعني توفير الشروط السياسية التي تمكن أكثرية المجتمع من مواجهة جور وطغيان واستئثار الأقلية، بل أصبح يعني تحالف أوساط اجتماعية واسعة مع الأقلية ضدّ الأوساط الأوسع من المعدمين، وقد صار واضحاً اليوم أنه في كل دولة ديمقراطية ليبرالية ثرية توجد قطاعات واسعة من الشعب معزولة ومهمّشة سياسياً، وبينما تتسع وتتعمق الفروق واللا مساواة بين طبقات الشعب في الدول الديمقراطية القوية الثرية، تتسع وتتعمق الفروق واللا مساواة بين الدول الثرية عموماً والدول الفقيرة ، حتى أن مصطلح الديمقراطية صار مرادفاً لصفة الدولة الثرية، وبينما يدعي أنصار الديمقراطية على الطريقة الأميركية أن الديمقراطية هي الطريق إلى الثراء، فإن الإحصائيات تبرهن أن ثراء البعض، أفراداً ودولاً، يتحقق بإفقار الأكثرية أفراداً ودولاً!
تريد غزالاً، خذ أرنباً!
بعد استئثارهم بالمصطلح الجميل، لم يأبه الأثرياء والدول الثرية لمصير شعوب العالم التي تدمّرها المجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية، علماً أن استئصال الغابات وتلوّث البيئة بآثارهما المدمّرة هما من نتاج السياسات الاقتصادية والتجارية للدول الثرية، ليس هذا فحسب، بل إن الأثرياء الأوروبيين والأميركيين، الديمقراطيين، لجأوا إلى القوة العسكرية لفرض الديمقراطية على الدول الفقيرة بالمواصفات التي أشرنا إليها، أي الاندماج في السوق الدولية الرأسمالية كلقمة سائغة يبتلعها الاحتكاريون، وهذا عين ما فرضوه في البوسنة وكوسوفو وصربيا، وعين ما يحاولون فرضه في العراق!
وبالمناسبة، لنلاحظ أنه بينما يتدفق على يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق مئات ألوف المرتزقة والمغامرون، من مختلف الجنسيات والقارات، فيعيثون فساداً وقتلاً ونهباً، وبينما يتواجد في دول الخليج الثرية، غير الديمقراطية، مئات الألوف من العمال الأجانب، من مختلف القارات والجنسيات، فإن الدول الديمقراطية الثرية القوية ترفض قبول المهاجرين من مستعمراتها السابقة، وتلجأ إلى جميع الوسائل، بما فيها وسيلة الاعتقال والقتل، للحيلولة دون دخولهم بلادها، وفي الوقت نفسه لا تتورع عن توجيه الانتقادات لحكومات الجنوب، الديكتاتورية المتخلفة، لأن العمال الأجانب فيها يتعرضون لبعض المشاكل والصعوبات التي هي من النوع الطبيعي المتوقع في كل مكان! إن ديمقراطيتهم تذكرنا بالقائل: تريد أرنباً خذ أرنباً .. تريد غزالاً خذ أرنباً!
الديكتاتوريات لم تفعل أكثر!
وطالما جئنا على ذكر المهاجرين إلى جنان الحرية والديمقراطية والثراء، تنبغي الإشارة إلى أن هؤلاء هجروا بلدانهم بعد أن نهبها الأحرار الديمقراطيون الأثرياء وتركوها قاعاً صفصفاً، وتوجهوا إلى حيث انتقلت ثرواتهم آملين تأمين مجرّد حياة طبيعية في الحد الأدنى، ليجدوا أنفسهم في مواجهة القناصة على الحدود، فإن نجحوا في الدخول كانت في انتظارهم عمليات العزل العرقي، حيث الدول الديمقراطية الثرية حريصة على نقاء تركيبتها السكانية، وإذا بهم هائمين على وجوههم بلا حقوق سياسية، ولا حقوق مدنية، محرومين من حق الانتخاب ومن حق إيصال صوتهم إلى السلطات عبر المظاهرات السلمية، ومن حق إصدار الصحف، ومن حق الجهر بديانتهم، ومعرضين طوال الوقت للاعتقال العشوائي والنفي، بل القتل!
إن المهاجرين من أبناء المستعمرات السابقة الذين نهبت ثرواتهم، ودمّرت بلادهم وبنيتهم الاجتماعية الوطنية، وصودر مستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، يلجأون إلى البلدان التي نهضت على أنقاضهم وبفضلهم فيجابهون بالحد من حريتهم في التنقل، والسكن، والعمل، إلا بموجب ترخيص، أي أنهم غير متساوين أمام القانون مع أهل البلاد حتى وإن حصلوا على حق الإقامة أو على الجنسية، فبماذا يمكن أن تتهم الأنظمة الديكتاتورية أكثر من هذا!