التعددية القطبية بالملموس؟

التعددية القطبية بالملموس؟

ثمة ظاهرة جديدة في المشهد السياسي الدولي، تتجلى في  اتساع الهوة وصولاً إلى  التناقض بين تصريحات/ «تهديدات» الساسة الغربيين ذات الطابع الدعائي، حول العديد من الملفات الدولية، وبين مواقفهم العملية، وقدرتهم على تنفيذ تلك التهديدات.

برز ذلك واضحاً  في موضوع اتفاق الهدنة الروسي- الأمريكي حول سورية، ما بين التراجع عن الاتفاق، أو التعليق والتجميد، ومن ثم في التلويح بالخيار العسكري، والتراجع عنه. وبالأمس تكرر الموقف فيما يتعلق بعقوبات أوربية جديدة ضد روسيا، على خلفية تطورات المشهد العسكري في حلب، حيث صعّدت الماكينة الإعلامية الموقف ضد موسكو، وأشاعت جواً من التوتر على عموم العلاقات الدولية، لتكون النتيجة تراجعاً جديداً في الميدان، وفي ما هو ملموس.

تمخضت التهديدات الإعلامية بالحرب، فأنجبت تراجعاً في «لوزان»، وهاج التهديد بالعقوبات، في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوربي، فظهرت فكرة أن «روسيا شريك لا يمكن الاستغناء عنه». وكان انكشاف المزيد من التناقضات ضمن الاتحاد العجوز، وتعمقها.

هذه المفارقات المتكررة بين الدبلوماسي– الدعائي، وبين الإجرائي- العملي، والتي باتت سمة ملازمة لتصريحات وسلوك الدبلوماسيين الغربيين، والتي تظهر  بشكل دوري، خلال مدد قصيرة لا تتجاوز يوماً واحداً في بعض الأحيان، تعكس حالة التردد، والعجز في اتخاذ القرار، رغم رغبة نخب الدول المركزية فيه «ألمانيا– فرنسا»، وقبل ذلك انسحاب انكلترة من الاتحاد الأوربي، والتلميح بتشكيل دول تكتل الجنوب الأوربي بزعامة فرنسا، وحالة التردد في مطبخ القرار الأمريكي في العديد من الملفات- مثل في شرق آسيا وسبل مواجهة تعاظم النفوذ الصيني- وفي المسألة السورية بشكل أوضح، بما يثبت جملة حقائق:

أولاً: أن المركز الرأسمالي الغربي، يمر بمرحلة تخبط، ويعاني من الازدواجية، واستمرار تفاقم تناقضاته الداخلية،  ويخسر المزيد من المواقع، ويفقد قدرته على الهيمنة التي استفرد بها على مدى عقدين من الزمن.

ثانياً: صحيح أن هذا التراجع هو نتاج تناقضات داخلية، نابعة من طبيعة البنية الاقتصادية الاجتماعية المهيمنة بالدرجة الأولى، ولكن ما كان له أن يكون، ويتسارع بهذا الشكل، لولا تقدم الطرف الآخر، وامتلاكه الأدوات التي تؤهله ليكون نداً حقيقاً، أي أن عالم التعددية القطبية بات أمراً واقعاً، يستكمل القطب الجديد بناء أدواته في المواجهة على الجبهات كافة.

ثالثاً: يدير القطب الدولي الجديد، ثنائية «تقدم– تراجع» بمسؤولية عالية تجاه الحضارة البشرية، معتمداً مبدأ تسجيل النقاط، في الاقتصاد، والنشاط الدبلوماسي والسياسي، المدعوم بالقوة العسكرية إذا تطلب الأمر، وهو بذلك يعمل على تسريع الفرز في المركز الرأسمالي الغربي لصالح التيارات العقلانية، ويؤرّض في الوقت نفسه دور التيارات الفاشية، صاحبة الخيارات المجنونة. أي أن القطب «الروسي– الصيني» بات يقود عملياً قاطرة قوى السلم والأمن الدوليين، وهو بذلك يسير متساوقاً مع ثنائية التناقض الأساسي في العالم المعاصر: بين المركز الامبريالي الغربي، وبين قطب الشعوب. فهذا القطب في سياق نضاله من أجل السلم ولجم وحش الفاشية الجديدة، الذي يعمم الفوضى والحرب على النطاق العالمي، سيندار موضوعياً إلى النضال ضد الامبريالية، المحكومة باستمرار الحرب، دون أفق لمواصلتها. 

رابعاً: إن أحد أهداف القوى الدولية المتراجعة، من سيل  التصريحات الإعلامية الاستعراضية، هو التغطية على تراجعها، في سعي للحفاظ على ما تبقى من وشائج الحلف غير المقدس، بينها وبين القوى التابعة في البلدان الطرفية، تجنباً للانهيار، سواء أكانت أنظمة تابعة، أم قوى مستحدثة في سياقات الصراع، والتي كثيراً ما ورّطها، هذا الاستعراض الإعلامي الغربي، ودفعها من مأزق إلى مأزق. ومن المعروف أن انفراط عقد التحالفات، والتآكل من الداخل، هي خاصية ملازمة لأية بنية في مرحلة التراجع. 

خامساً: حاول الطرف الصاعد خلال السنوات السابقة، «مساعدة» الطرف الأمريكي في النزول من شجرة  الخطاب الحربجي، كلما تورط في التصعيد (التلويح بالعدوان على سورية في آب 2013 مثالاً). والجديد أن أحداث الشهر الجاري، تشير إلى أن الطرف الروسي، لم يعد يعمل على تدوير الزوايا، كما كان يفعل خلال الاعوام السابقة، بل يرد بالمثل على التصعيد الأمريكي- الأوربي، على عادة الواثق من نفسه، والمتأكد من خياراته وأدواته في الصراع، والممسك بزمام المبادرة، وبات يتخذ مواقع هجومية، في جبهتي السياسة والاقتصاد. 

سادساً: إن عملية التراكم التي تحدث في سياق التراجع الجاري والمستمر للقطب الامبريالي الغربي، وما يقابلها من التراكم في سياق تقدم الطرف النقيض ستؤدي بطبيعة الحال إلى حالة نوعية جديدة، في منظومة العلاقات الدولية، وصولاً إلى تشكل خيمة دولية جديدة، يحتمي بها كل من يسعى الى الإفلات من الهيمنة الأمريكية والغربية، كأسوأ نموذج للعلاقات بين الدول. 

سابعاً: إن الصراع الجاري، هو ليس مجرد منافسة وتقاسم مناطق النفوذ بالمعنى التقليدي، كما تدعي وتزعم بعض القراءات السطحية للصراع الدولي، بل أن مفردات الصراع، وتجلياته اليومية وأدوات كل طرف، وحتى البنية الاقتصادية- الاجتماعية في جانب منها تؤكد جملة تناقضات أقرب الى الطابع التناحري منها، إلى المنافسة.

إن سلوك دوائر صنع القرار في الغرب الامبريالي، وحالة الفصام السياسي التي تظهر ما بين الدعائي، والإجرائي، وعدم قدرة تلك الدوائر على ضبط إيقاعات الصراع، بالطريقة التقليدية، من شأنه أن يحرك القوى الحية كلها، والطاقات الكامنة، التي لم تعبر عن ذاتها بعد.