تعالوا نختلف جدّياً على المتحول «t»..!
لم يعد هنالك كثيرون ممن يناكفون في حقيقة أن تغيّراً عالمياً كبيراً يجري على قدم وساق. ويعبّر عنه بالقول بـ«تغيرات ميزان القوى الدولي» وبالحديث عن «الأحادية القطبية» وتحولها التدريجي نحو «تعددية قطبية»، مع ذلك فثمة خلاف كبير وجوهري لا يزال قائماً..
يتمحور الخلاف حول الأسئلة التالية: ما طبيعة التغيّر الجاري؟ ما هي آفاقه؟ وبأية سرعة يسير؟ ولهذه الأخيرة أهميتها الخاصة.. ولكن فلنبدأ من حيث ينبغي أن نبدأ!
«طبيعة التغيير»
إنّ رصد مجمل التغيرات الكبرى الجارية على الساحة العالمية، بجوانبها المختلفة: المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وحتى الثقافية، ورغم أنّه يسمح بتكوين تصور معقول حول كيفية سير الأمور، وتالياً التنبؤ بآفاقها، إلّا أن الخضوع لعملية «الرصد الخارجي» تلك، دون البحث في الأسباب العميقة، كفيل بتوليد جملة من الاستنتاجات الخاطئة.. ولنأخذ واحداً من أهم الأمثلة على ذلك: «الأحادية والتعددية القطبية»؛ إنّ من يستنتج من صعود «بريكس» وتراجع «الغرب» أننا نعيش مرحلة الانتقال من «العالم الأمريكي» الأحادي القطبية إلى عالم «ثنائي أو متعدد القطبية» يقع في خطأ كبير.. لماذا؟
إنّ القول بالانتقال من الأحادية إلى الثنائية أو التعددية، يندرج في إطار القياس الشكلي مع الماضي، أي أنّه مقاربة تستند في جوهرها إلى تغيرات أواخر القرن التاسع عشر وتغيرات القرن العشرين، وهي لذلك مقاربة يمكن لها أن تقع في أخطاء كبرى.. فالقياس يفترض التكرار، ولذلك بالضبط فإنّه لا ينفع إلا في حدود ضيقة هي حدود المرحلة التي تتسم بسمة عامة جوهرية مشتركة، أما حين يجري الحديث عن الانتقال بين مرحلتين لهما سمتان مختلفتان جوهرياً، فإنّ القياس يغدو أداة تضليل أكثر منه أداة معرفة..
إنّ في أساس تغير ميزان القوى الدولي الجاري، ليس تقدم هذا الطرف وتراجع ذاك وحسب، بل الأزمة الرأسمالية العالمية الشاملة والعميقة والتي تضع أرجل الأطراف كلّها في «فلقة واحدة»، يتمايزون في مواقعهم ضمنها بين من عليه تلقي معظم الضربات لأنه الأقل جاهزية وقدرة على التكيف، وبين من سيلقى جزءاً منها لأن لديه إمكانية التكيف، هذه الإمكانية التي لا تزال نظرية حتى الآن، وستبقى ريثما تتحول إلى واقع وإن لم تتحول فإنّه سيواجه مصير «المتراجعين» نفسه، وربما مصيراً أقسى منهم!
«آفاق التغيير»
إنّ احتمال أن تكون الأزمة الراهنة للرأسمالية، هي أزمتها الأخيرة والنهائية، هو احتمال عالٍ، ولا يتسع المكان هنا لتفسير هذا الاحتمال، (يمكن للقارئ الرجوع إلى الكتابات العديدة في قاسيون حول هذه المسألة وخصوصاً تقرير المؤتمر الاستثنائي 2003)، إن هذا الاحتمال يغير وجهة النظر في المسألة برمتها، وبآفاقها أيضاً.. فالعالم لن ينتقل من حالة استقرار على أحادية قطبية باتجاه حالة استقرار أخرى على ثنائية أو تعددية قطبية على نمط الحرب الباردة في القرن الماضي، بل إنّ الانتقال الذي يبدو اليوم من حيث شكله انتقالاً من الأحادية إلى التعددية، هو ذاته انتقال غير مستقر، وحتى مع اكتماله فإنه لن يستقر طويلاً، فثمة مشكلات كبرى لا تزال عالقة وبحاجة إلى حلول جذرية.. مشكلة توزيع الثروة على المستوى العالمي بين رأس المال والشعوب التي باتت تكبح النمو في الدول جميعها، متقدمها ومتراجعها.. بل وإنها تُصَفّر ذلك النمو وتقوده نحو المعدلات السالبة.
بأية سرعة سيجري ذلك؟
تتحد سرعة التغيير، أي حجمه وزمنه، لا وفقاً لـ«التفاؤل التاريخي»، ولا وفقاً لـ«التشاؤم التاريخي»، بل وفقاً لطبيعة التغيير نفسه وقانونياته، أي تبعاً لعمق الأزمة الرأسمالية الحالية وآليات تفاعلها وتطورها، وهذه بحاجة إلى فهم عميق ومتابعة حثيثة للوصول إلى تحديد الأزمنة التي ستشهد خلالها التحولات الكبرى. واحدة من أهم الأدوات في عملية التحديد هذه، هي: دراسة أطوار الأزمة (المالي- الاقتصادي- الاجتماعي السياسي- مرحلة إنتاج البدائل).. والوقائع اليوم تشير إلى أن العالم قد دخل الطور الثالث الاجتماعي السياسي من الأزمة.. ما يعني أن آجال التغيير باتت على مقربة، وباتت ضمن ما يسمى (الآجال المتوسطة)..
صياغة المهام
إنّ رفع الشعارات الثورية والتغييرية، ووضع المهام الثورية، يتطلب لا فهم الخط العام فقط، بل يتطلب بالضرورة تكوين صورة قريبة من الواقع عن المتحول «t»، عن الزمن. بأي الآجال ستجري التغييرات؟ لأن عدم تحديد تصور عن ذلك يعني أن المهام الموضوعة أياً تكن هي مهام غير مكتملة على أقل تقدير.. وهي أيضاً مهام غير صحيحة وضارة، فإن هي استبقت اللحظة المناسبة فشلت، وإن سبقتها تلك اللحظة فهي قد فشلت أيضاً..
فإذا كان كثيرون يقولون بتغير ميزان القوى.. فلنتقدم خطوة أخرى عبر محاولة الإجابة عن متى سيكتمل هذا التغير وكيف سيكون شكله..؟ ولنختلف في الإجابة فهذه مسألة تستحق الجهد البحثي والنضالي كله، ولنترك وراءنا سجالات هل يتغير الميزان فعلاً أم أنه لا يتغير.. لنترك هذا السجال للأنظمة التقليدية ومعارضاتها التقليدية..