الافتتاحية: اليسار.. رهين المحبسين

حرك تطور الأزمة الرأسمالية العالمية قضية موقع ودور اليسار وخاصةً الماركسي، في الحاضر والمستقبل.. وهذا الأمر ليس غريباً، فالاهتمام بمؤسسي الفكر الاشتراكي العلمي يتعاظم بقدر استفحال الأزمة، فهي قد أعادت الوهج من جديد إلى أفكارهم التي اعتقد البعض أنه قد دفنها إلى الأبد بعد الانهيار الذي حصل في أواخر القرن العشرين، وتأتي الوقائع لكي تثبت من جديد صحة الحقائق البسيطة العميقة التي استند إليها هذا الفكر، والتي تأتي أهميتها من كونها أداة تفسير للحاضر وأداة تغيير باتجاه المستقبل في آن واحد.

إن المشكلة الأساسية التي عانى منها اليسار الماركسي، أو على الأقل أغلبية فصائله، في النصف الثاني من القرن العشرين، هي القصور المعرفي في تفسير الظواهر المستجدة، ما أبعد وعرقل إمكانية التغيير، بينما كانت حال الحركة أفضل من ذلك بكثير في النصف الأول من القرن العشرين، فالقدرة الهائلة على التغيير الذي قامت به يثبت صحة تفسيرها آنذاك للظواهر والواقع المحيط بها..

والملفت للنظر أن هجوم أعداء الفكر اليساري الماركسي، من كل شاكلة ولون، ينصب بالدرجة الأولى على تلك المرحلة التي تحققت فيها النجاحات الهائلة التي غيرت وجه العالم.. على تلك المرحلة بأفكارها ونتائجها ورموزها.. فلماذا؟!

من المفهوم أن يقوم الأعداء الطبقيون للماركسية بتركيز الهجوم على مرحلة الانتصارات والنجاحات الكبرى، ولكن من غير المفهوم بتاتاً أن يكون بعض من يدعي الماركسية اليوم صدى لهذا الهجوم وتكراراً مبتذلاً لأهم مقولاته، فهذا الهجوم كما تبين الحياة اليوم، لا يستهدف هذه المرحلة كمرحلة بقدر ما يستهدف منع يساريي وماركسيي اليوم من الاستناد إلى الإرث المعرفي الذي كونته تلك الحالة آنذاك، والانطلاق من جديد بالاتجاه الصحيح لاستكمال الانتصارات التي تحققت خلالها.. إنهم يريدون منعهم بكل الوسائل من الانطلاق من تلك المنصة المعرفية التي أنجزت عبرها أجيال الشيوعيين في النصف الأول من القرن العشرين ما أنجزته، للحؤول دونهم ودون الانتصارات القادمة..

إن اليسار الماركسي الحقيقي اليوم سيكون محكوماً بالانتصار إذا استطاع استيعاب وتمثّل تلك المرحلة بعد أن ينفض عنها كل غبار الأكاذيب والافتراءات.. وإذا استطاع أن يراها كما كانت فعلاً وليس كما صورت بشكل مشوه.. أي أن يراها بأعينه وليس عبر العدسات المشوهة للوقائع والتاريخ التي ألقت بكم هائل من القاذورات عليها.. وإن كان هناك من أخطاء قد ارتكبت فيها، فيجب التعاطي معها من منطلق  أن «من يعمل قد يخطئ»، وليس من المنطلق الذي يحاول فرضه وتكريسه الأعداء الطبقيون. 

إن الأجيال الجديدة من الثوريين إذا قامت بذلك، فإنما تقوم بإعادة الاعتبار لنفسها ولحركتها الثورية المتجددة، وليس بإعادة الاعتبار لتلك المرحلة!.. لأن تلك المرحلة بالذات هي القادرة على إعادة الاعتبار لحاضر الثوريين الحقيقيين ومستقبلهم..

إن أهم درس تمكنت الحركة الثورية المنتصرة في ذلك الحين من تقديمه للتاريخ، هو ربط النظرية بالتطبيق، وربط القول بالفعل، وربط التفسير بالتغيير، وهذا هو السر الدفين لكل نجاحاتها..

المطلوب اليوم ليس النقاش حول جنس الملائكة.. حول إعادة صياغة مفهوم اليسار واليسار الماركسي، بل المطلوب هو التخلص من مرض فقدان الذاكرة، وصياغة المهمات العملية الملموسة الكفاحية الثورية لليسار الماركسي لكي يأخذ موقعه الذي يجب أن يأخذه إلى جانب كل القوى المعادية للإمبريالية والصهيونية..

أما صياغة هذه المهام فهو الذي يتطلب تطوير النظرية استناداً لآخر نقطة حققت فيها نجاحاتها الكبرى، وعلى أساس ذلك صياغة طريقة الفعل والتغيير..

إن الغرق بالماضي هجوماً أو مديحاً، والدوران فيه لن يسمح بالتقدم إلى الأمام، وإن كان هو تعبير عن شيء فهو تعبير عن حالة تفسخ وتفكك أصابت بحق من يدّعون اليسار.

إن المطلوب فعلياً اليوم ليس إعادة النظر بمفهوم اليسار واليسار الماركسي، وإنما إعادة النظر بالقوى التي تقول عنه نفسها إنها قوى يسار أو قوى يسار ماركسي.. لكي نستطيع أن نفرز اليسار الحقيقي عن اليسار المزيّف الوهمي.. لكي نستطيع أن نفرز اليسار الفعلي عن اليسار الاسمي.

إن أعداء الشيوعية يستمتعون جداً بالخلط بين جميع هذه القوى لعرقلة تطور الحركة واستعادتها لعافيتها، والواقع يقدم لنا اليوم مواد خام جديدة تتطلب التفكير والمعالجة واتخاذ الموقف من العلماني اليميني إلى المتدين اليساري مروراً بالمتكلم اليساري.

في ظل الأزمة الرأسمالية العالمية، واشتداد حدة المواجهة في منطقتنا، ولد وينمو صنف جديد من المناضل اليساري الماركسي الحقيقي.. الذي يفهم الماضي دون تشويه، ودون انغلاق عليه، يفهمه للانطلاق منه نحو الأمام، نحو تغيير العالم تغييراً ثورياً حقيقياً، لا يقبل أنصاف الحلول في القضايا المبدئية الكبرى.. هذا الجيل الجديد من الثوريين الذي يستلهم أفضل ما في الماضي، هو الذي سيكون حامل التغيير في المستقبل، مخرجاً اليسار من المحبسين: محبس العدو؛ ومحبس اليسار العاجز المزيف..