امتهان الحوار.. امتحان الحوار

امتهان الحوار.. امتحان الحوار

ترتفع الأثمان على البلاد بتعاقب الأيام، ويطول عمر الأزمة السورية بما تحمله من معاناة وألم، أصاب الإنهاك الجميع بشراً وحجراً، وأصبحت الدماء تباع وتشرى في أسواقٍ رهيبة للموت يجتمع فيها المتشددون والأعداء والأغراب..

ما جرى وسيجري من قتل وتخريب وحرق هو الحل الأنسب والأفضل في نهاية المطاف لكل الأعداء، دون أن ترجح كفة ضد أخرى، ليصبح الحقد عنوان سورية المقسمة يحارب الأخ أخاه في خضم عشرات التناقضات الثانوية والعناوين الوهمية، هذا ما يسعى إليه الأعداء الذين يذرفون دموع التماسيح على آلام الشعب السوري وجراحه. إلا أن خيبات الأمل إزاء الانتصارات الوهمية تتراكم، وتزداد الضربات المتوالية إيلاماً للجميع دون استثناء من جانب العنف الأعمى، ويتعزز اليقين باستحالة إلغاء الآخر، وهذا بلا شك كان منذ البداية هماً جوهرياً للقلة التي ما زالت تحاول جذب الانتباه للصوت الخافت لجرحى القلب والجسد وتفتح كل المجال لشبك الأيادي والتفاهم حول جميع نقاط الخلاف، دون أن تعير الاهتمام لأصوات النشاز المتآمرة على لقمة العيش وعلى تماسك البلاد اقتصادياً واجتماعياً، والتي تخدم مصالح خبيثة لقوى معادية للشعب والدولة يتكشف الغطاء عنها يومياً.

لذا كان واقعاً اعتبار الحوار الوطني بالنسبة للمتشددين في النظام وبالنسبة لجزء هام من المعارضة عدواً أساسياً لمصالحهم، لأن ذلك سيكلفهم المحاسبة على فسادهم وكذبهم، وما يرتؤونه للأزمة السورية هو حل شكلي يترسخ من خلاله مشروع اقتسام سورية في إطار تغيير مزيف شبيه بذاك الذي جرى في مصر وتونس. أصبحت مهمتهم الأولى والأخيرة إشاعة مناخ عدم الثقة بين الأطراف المختلفة، وزيادة جرعات الشقاق السياسي والطائفي كأحد أدوات تحطيم أي مشروع وطني حقيقي يعيد للحركة الشعبية معناها العميق.

هنا يبرز مفهوم الحوار بين الأطراف السورية كحل ناجع لتفويت الفرصة على من يدفع البلاد يومياً نحو الهاوية، ويجعل من مشروع النهضة الوطنية نحو التغيير السلمي الشامل مشروعاً قابلاً للتطبيق. لكن الوصول إلى مناخ حواري سوري فعال سيصطدم بالعديد من العوائق الذاتية والموضوعية تجعل بدورها من هذا المشروع تحدياً جدياً يوقظ الكثير من الغافلين عن مصالحهم من غفلتهم.

لم يكن المناخ السياسي السوري الحالي ناضجاً لفكرة الحوار، من الناحية الذاتية، حتى الأيام القليلة الماضية، ولم تتجاوز مظاهر تطبيقه حيز المتاجرات الخطابية، كما أنّ التركيز على المشكلة الرئيسية وتحديد الأولويات لم يصبح بعد سمة من سمات التفكير السياسي السوري، ثم أنّ ثقافة العمل السياسي الحقيقي غدت مغيّبة ومستهجنة، وغلبت العواطف على سبعض السياسيين،  وطغت على خطاباتهم الشعارات الواهية، وظهرت أزمة قيادات سياسية تفتقر إلى القدرة على استيعاب المتغيّرات في البيئتين الإقليمية والدولية، وخصوصاً أنّ الفهم الخاطئ للوضع الدولي يقود إلى تشخيص خاطئ للمشاكل، وطرح حلول غير صالحة لا تقود إلا للفشل.

وكان من المؤسف بحق ما تبين من التجربة السياسية السورية -كجزء من التجربة السياسية العربية- بأنّ أغلب أحزاب المعارضة ظلت محكومة، في وعيها وفي تجربتها، بالتحرك ضمن مدار إشكالية السلطة، في حين غابت إشكالية المجتمع في رهانات التغيير لديها، وانصب كل تفكيرها وجهدها على البحث في كيفية بلوغ الهدف المركزي: استلام السلطة، وبذلك اتجهت إلى الانفصال عن الموقع الذي يضمن لها سلطتها الفعلية: المجتمع المدني، لتنضم إلى مجتمع النخبة-السلطة، إلى درجة بات حراك قوى المعارضة ينحصر في الصراع من أجل تعديل الحصة ليس أكثر، وأن يصبح التغيير الناجم عن صعود قوة ما من هذه القوى إلى الحكم بصفته شكلاً من أشكال الاستبدال السياسي: استبدال نخبة بنخبة تنهل من مرجعية سابقتها.

لذا وليحقق الحوار مبتغاه لا بد من أن يتمتع الأداء السياسي بما يلزم لتجاوز عيوبه والتخلص من جميع نقاط الضعف في هيكله، ويجب أن يركز على القاعدة الشعبية كأحد وسائل التغيير السلمي الشامل..