المرأة السورية.. والموضوعات البرنامجية
حسب ما هو متعارف عليه في العرف السياسي، تقوم معظم الأحزاب والقوى السياسية بعرض برامجها وطرحها للنقاش الداخلي كدليل عمل، خاصة قبيل انعقاد مؤتمراتها، ولاشك أن هذه البرامج تتفاوت في أطروحاتها حسب إيديولوجيات واتجاهات كل من هذه الأحزاب، والتغييرات التي قد تطرأ عليها، ومقدار قوتها الراهنة والمطموح الوصول إليها. لكن في العموم فإن أحد أهم المشكلات التي تعاني منها الحركة السياسية في سورية ككل، مرتبط بهذه البرامج الضخمة، وعدم قدرة الأحزاب على تحقيق أغلب المهام التي أوحت لجماهيرها أنها ملتزمة بتحقيقها، مما يتسبب لاحقاً في ابتعاد جماهيرها عنها، وضعف ثقتها بها..
فما الذي يؤدي لمثل لهذه النتيجة عادة؟
لعل السبب الأساسي يكمن بعدم امتلاك هذه القوى لرؤية حقيقية، تربط بين مرجعياتها الفكرية (النظرية) من ناحية، والواقع الموضوعي الملموس للجماهير التي تمثلها من ناحية أخرى، مما يؤدي – فيما لو تم فعلاً - إلى صياغة مهام حقيقية ملموسة وقابلة للتحقيق، وبالتالي خلق ذلك التراكم اللازم والكافي لتطورها اللاحق وإثبات ذاتها ومصداقيتها كأحزاب فاعلة في الحياة السياسية.
لكن واقعياً، أدى غياب هذه الرؤية تاريخياً لدى معظم القوى والتنظيمات، أن ترفع وتتبنى شعارات كبرى، في برامجها ومهامها المطروحة نظرياً، صحيحة أحياناً، لكنها غير قادرة على إنجازها، أو لا تسعى جدياً لإنجازها لأسباب بنيوية، مما يجعلها في النتيجة تنكفئ على ذاتها وتتقلص، وتكتفي بالإرث النضالي الذي ربما يكون بعضها قد اكتسبه تاريخياً، خصوصاً في فترة نهوض الحركة الثورية..
إن الشعارات مهما كانت كبيرة وصادقة، إلا أنها تظل في أغلبها حبراً على ورق إذا لم تجد لها إسقاطات على أرض الواقع، وإذا لم تجد المفردات الحقيقية التي يمكن أن يترجم فيها هذا الشعار إلى عمل أو فعل ملموس ضمن برنامج عمل حقيقي محدد بآجال زمنية.
ضمن هذا السياق، لابد من وقفة عند ما تم طرحه في مشروع الموضوعات البرنامجية.. فقد جرى طرح جملة من المفاهيم والأفكار المنجزة عبر الرؤية التي صاغتها اللجنة الوطنية منذ نشوئها وحتى الآن، والتي تميزت، في أحد جوانبها، في أنها لم تُقدم كبرنامج ناجز لحزب قائم، كونها – أي اللجنة الوطنية- تسعى مرحلياً لتوحيد صفوف الشيوعيين باتجاه استعادة الحزب الشيوعي لدوره الوظيفي، بل جاءت كل موضوعة أو عنوان من الموضوعات مفتاحاً لجملة من القضايا التفصيلية المتفرعة عنها.. ولكن برز فيها قصورها عن عرض بعض القضايا مثل قضية تحرر المرأة والدفاع عن حقوقها بشكل مباشر وتفصيلي، كما تعودنا من غيرها من القوى قديماً وحديثاً، والتي تضّمن هذه القضية في برامجها، وتتبارى أحياناً في رفعها كشعار أساسي.
والسؤال الذي لابد من طرحه: هل سقطت هذه القضية سهواً عن واضعي الموضوعات، أم أن الأمر يمكن رؤيته من زاوية أخرى؟
إن تحرر المرأة على أهميته كقضية قائمة بذاتها، وعلى درجة عالية من الخصوصية والتركيب، ليست خارج إطار القضايا العامة والأساسية التي تعيشها البلاد بتركيباتها وتعقيداتها، وتداخل الأساسي فيها (القضية الوطنية وارتباطها وتلازمها مع القضية الاقتصادية الاجتماعية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى)، وبالتالي لن يخرج النقاش في قضية كهذه، وما يترتب عليه من حلول لاحقاً، عن هذا الإطار أيضاً، فالمشكلات التي تعاني منها المرأة السورية ليست معلقة في الهواء، ولا يمكن حلها بوصفات جاهزة أو مستوردة، بل لابد من إعادة النظر بالجذر الحقيقي لها إذا كنا فعلاً نريد اجتثاثها، وأعني بذلك ارتباطها العضوي بالوضع المعاشي الاقتصادي وانعكاساته الاجتماعية من جهة، وارتباطها بالموروث الاجتماعي والمخزون الذي نحمله من التراث من جهة أخرى، (وهو ما لم يتم بحثه جدياً فيما سبق، من جانب القوى التي تمثل الحركة السياسية أو حتى بعض القوى المجتمعية التي تعد نفسها ذات توجه تقدمي، بحيث يؤدي هذا النقاش العميق إلى إطلاق ما هو إيجابي وكامن في الإرث المجتمعي، ويمنع الطريق على أية قوة ظلامية يمكن أن تعتاش عليه). ومع التأكيد على الخصوصية السورية لهذا الإرث التاريخي، والذي تعد معرفته ووعيه شرطاً ضرورياً ولكنه غير كاف لبحث المسألة، دون ربطه بالقضية الأساسية المتمثلة بالواقع المعاشي المتردي الذي تعانيه شرائح اجتماعية تبدو متباينة ومختلفة، ولكن مصالحها المتضررة من السياسات الاقتصادية بدأت توحدها شيئاً فشيئاً. وبالتالي فإن تحرر المرأة مرهون بتحرر كل المتضررين من تلك السياسات، عبر حراك ثلاثي الأبعاد (سياسي – اقتصادي - اجتماعي). وهنا لابد من التأكيد على مسألتين أساسيتين تتعلقان بخصوصية قضية المرأة في سورية، الأولى هي المعرفة التي ستمكن المرأة من وعي واقعها ومشكلاتها، وبالتالي صياغة مطالب حقيقية واقعية يمكن تحقيقها، والثانية هي التمكين الحقيقي للمرأة، أي تمكينها من خلال قوانين وتشريعات متطورة ومتفقة مع روح العصر ومستجدات التطور، وخلق إجماع شعبي على مفرداتها، عبر إشراك أوسع شرائح المجتمع بنقاشها قبل إقرارها لاحقاً.. وبهذا يمكن توفير الظروف اللازمة لتغيير ميزان القوى لمصلحة القضايا المطلوب حلها، وتحويل الشعارات إلى برامج عمل فاعلة وذات جدوى حقيقية.