الفقر والبطالة.. وأنصاف الحقائق!
اعترفت الحكومة مؤخراً بعدم انخفاض معدلات الفقر والبطالة خلال الخطة الخمسية العاشرة كما كان مرجواً، والأدق أن يقال إنه جرى ارتفاع في أرقام الفقر والبطالة.. وكنا نرجو الإفراج عن الدراسات الرسمية التي تؤكد ذلك، وليس في ذلك أي خطر على البلد أو إهانةً لأحد.. لأن الاعتراف بالحقيقة هو نصف الطريق لتجاوز الإشكالات الموجودة.. أما المكابرة وعدم الاعتراف بالحقيقة كاملةً فهو أقصر طريق لاستمرار المشكلة نفسها..
بعد صمت طويل، تخللته تأكيدات أحياناً أن مستوى معيشة المواطن السوري قد تحسن، تم الاعتراف بنصف الحقيقة.. وهذا بحد ذاته خطوة نحو الأمام، ولكنه غير كاف بكل تأكيد، ولن تنفع هنا القنابل الدخانية حول ارتفاع حصة الفرد من الدخل الوطني الذي إن كان حقيقة، وهو يمكن أن يكون كذلك، فإنما يؤكد على شيء واحد فقط لا غير، ألا وهو أن عدم العدالة في التوزيع قد تعمق وازداد اتساعاً، فارتفاع وسطي حصة الفرد مع ازدياد معدلات الفقر إنما
يعني شيئاً واحداً، وهو أن الأغنياء قد ازدادوا غنى..
السؤال الكبير الآن، هو من المسؤول عن ذلك؟ والإجابة عن هذا السؤال ترتدي أهمية كبيرة ليس من زاوية تحميل مسؤوليات شخصية لأحد بقدر فهم الخلل والخطأ في السياسات التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
ولفهم جوهر المشكلة لابد من الذهاب بالتحليل خطوةً أبعد إلى الأمام..
إن نظرة سريعة على الأرقام المعلنة حول بنية النمو بين القطاعات المختلفة في الأعوام الماضية، تؤكد أن هنالك خللاً عضوياً يؤثر على كل عملية إعادة الإنتاج بمراحلها المختلفة من إنتاج- تبادل- توزيع- استهلاك..
فوتيرة النمو المعلنة، إذا أخذنا بها على حالها سواء بالأرقام الجارية أو الثابتة، تؤكد أن وتيرة نمو القطاعات غير الإنتاجية هي أعلى من وتيرة القطاعات الإنتاجية المرتبطة بالاقتصاد الحقيقي، بل أن حصتها عالية من الناتج المحلي الإجمالي (الدخل الوطني).
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المشتغلين بالقطاعات غير الإنتاجية هم أقل بكثير من المشتغلين في قطاعات الاقتصاد الحقيقي، لتبين لنا بحساب بسيط أن «كعكة» النمو المفترض تبدأ بالتوزع بشكل مشوه من هذه النقطة.. وإذا أخذنا بعين الاعتبار إضافةً إلى ذلك، أن نسب التضخم الفعلية هي أعلى من الرسمية المعلنة بمقدار الضعف، لتبين لنا أن المشكلة أكبر، فهذا يعني:
1 ـ أن نسب النمو بالأرقام الثابتة هي أقل من المعلن بمقدار النصف.
2 ـ وأن انعكاس ارتفاع الأسعار الذي ينعكس في الأرقام الجارية، يتجلى في نهاية المطاف في ظل ثبات الأجور النسبي بازدياد تمركز الثروة المستفيد رقم واحد من ارتفاع الأسعار، وبانخفاض القدرة الشرائية للأجر الاسمي، ما يعني في نهاية المطاف زيادة الأغنياء غنى والفقراء فقراً.
أي بكلام آخر، إن من ينتج في قطاعات الاقتصاد الحقيقي (عام- خاص) يحصل في نهاية المطاف على حصة أقل، إن كان مالكاً أو عاملاً، على حساب القطاعات غير الإنتاجية التي تتراكم فيها الثروة أكثر فأكثر عبر آليات معقدة.. ومن جهة أخرى، فإن من يعمل على كل الجبهات، وليس لديه غير دخله المحدود، يحصل على حصة أقل فأقل من أصحاب الأرباح الذين تتراكم وتتزايد ثرواتهم بسبب آليات التضخم المستمر الذي تحول بحق إلى ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء..
وطبيعي أن يضغط هذا الوضع على فرص العمل ويضيّق مساحتها، وإذا كانت الأرقام تتحدث عن ثبات نسب البطالة في ظل انخفاض فرص العمل المتوفرة من عام لعام، فإن هذا يعني أمراً واحداً فقط لا غير، هو ازدياد الهجرة إلى الخارج، ما يضعف الضغط على سوق العمل الضيقة التي بضيقها قذفت بعشرات الألوف خارج البلاد بحثاً عن الرزق..
إن مشكلتي الفقر والبطالة مرتبطتان بعضهما ببعض ولا يمكن فصلهما.. فتأمين نمو عال للقطاعات الإنتاجية، عدا عما يحققه من فرص عمل أعلى بكثير نسبياً من القطاعات الأخرى بتوظيفات أقل، فإنه يحقق ذلك النمو الحقيقي المرتبط بالإنتاج السلعي الذي يكبح جماح التضخم الذي يضرب بسوطه أصحاب الدخل المحدود بالدرجة الأولى.. وسيوفر على المدى القصير والمتوسط تلك الإمكانيات الضرورية لرفع مستوى المعيشة اللاحق عبر سياسة اجتماعية قوية لإعادة توزيع الدخل..
إن النظرة الكلية الشاملة لمشكلات الاقتصاد السوري وخاصةً مشكلتي الفقر والبطالة، هي الضمانة للوصول إلى اقتصاد قوي ونمو عال وتوزيع دخل عادل، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..