الفلول
ماجد ابراهيم ماجد ابراهيم

الفلول

الثورات التي عرفها التاريخ، الناجزة منها أو التي تعثرت بفعل الاختلال في توازن القوى وعدم نضوج شروطها، تميزت  بالمحتوى الانساني وفلسفة العدالة  والانقلاب على الظلم السياسي والاجتماعي، وبالمفكرين و الشعراء و الرومانسيين الحالمين في مجتمع عادل تتحقق فيه حرية الانسان و كرامته ويتساوى فيه المواطنون أمام القانون .

هي سمة الثورات البرجوازية و الاشتراكية و تلك التي قامت ضد الاقطاع و الانظمة الدكتاتورية على حد سواء، مما اعطى فكرة الثورة هذه الهالة التي تصل أحيانا إلى درجة القدسية ويصبح روادها رمزا لملايين الناس الطامحين للحرية و العدالة الاجتماعية و السياسية .

هي الثورات التي حملت أهدافا  وبرامجَ لبناء نظم جديدة على أنقاض القديم  و مبادئ و قيماً أكثر تقدمية مما سبقتها. 

نبحث هنا عن شيء من هذه السمات في التطورات العربية من حيث المحتوى الفكري التغييري و من حيث المكون القيادي  المبدع والإنسان فلا نرى الإشعارات و غضب  ومطالب عادلة وحفنة من الشعراء المبدعين من صلب الكادحين تُردد أشعارهم أغان تصدح بها أصوات بعض المغنين من الشباب  في الميادين و قد تلمست حريتها بعد أن كانت تسجيلات على أشرطة يتداولها الناس سرا و في الغرف المغلقة .

ما أجمعت عليه قوى  «الربيع» هو «اسقاط النظام » «الشعب يريد ... »  ولكن ماذا يريد هذا الشعب بعد اسقاط النظام ؟ ماهي برامج هؤلاء الناطقين باسم الشعب  وما هو النظام السياسي و الاقتصادي والاخلاقي الذي سيقوم بعد سقوط النظام ؟ من هي القوة التي تتولى إدارة اسقاط النظام و من ثم إدارة المرحلة الانتقالية عبورا إلى النظام الجديد ؟ من هي العقول التي تحتضن فكر التجديد و فلسفته و تنير الطريق أمام الجماهير و تنقلها من حالة الهيجان إلى العمل البناء ؟ خلت جميع الانتفاضات في المنطقة من الفكر و المفكرينو والبرامج الثورية.

و الأحزاب التي تأسست و ناضلت للوصول إلى هذه اللحظة الثورية بقيت عاجزة و جرفها تيار الشعبوية فطغى شعار الاسقاط على أية شعارات أخرى ولما تنحى حسني مبارك تحت ضربات « الشعب يريد ...» تسلحت قوى الحراك بشعار إسقاط آخر وهو « يسقط يسقط حكم العسكر» و حين اقترب موعد انسحاب المجلس العسكري بتسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب ظهر شعار « الشعب يريد اسقاط الفلول »، و الشعب في دوامة التجمعات و الهتافات و الدولة على حافة الانهيار ودعاة الخلافة و الدولة الدينية يتهيؤون للسلطة على صهوة الحراك الشعبي الذي مازال بعد أكثر من عام جسدا بلا رأس.

حين تفتقد الثورة أو أي حراك ثوري إلى الفكر و البرامج و القيادة الواعية تتحول إلى حالة هيجان تدميرية كردّة فعل على الظلم و الفقر و الاستبداد  وتسود روح الانتقام و يُسترخص الدم لتتشكل بيئة خصبة لجماعات الاقصاء و التكفير و عصابات المال والطامحين إلى الثروة والسلطة وأجهزة الاستخبارات الأجنبية بأذرع مدنية , و يزج بالمجتمع إلى التناحر الطائفي والفئوي و يصبح كل فرد عدواً للآخر تحت شعار «الاجتثاث » .

و لما كانت تطورات « الربيع العربي » لم تؤد إلى حسم عملية التغيير  وافتقدت البرامج الوطنية و القيادات الجامعة فإن  القوى التي وصلت إلى السلطة أو تكاد لجأت إلى إزاحة خصومها السياسيين بما تهيأ لها من حيلة و قوة  لعل ابرزها مصادرة حقوق الآخر و نفيه و تصفيته فكان شعار الاجتثاث و العزل سلاحاً يشهر في وجه كل من يخالف أصحابه .في الوضع الطبيعي تؤسس الثورة لحكم جديد بارادة الشعب الحرة في صناديق الاقتراع  دون الحجر على أحد الا من ارتكب جرائم ضد الشعب من خلال محاكمة عادلة تتوفر فيها جميع الضمانات القانونية . في واقعنا المؤلم أصبح القانون أول ضحايا « الثوار » و العدالة مشانق تعرض في الميادين و خناجر يردى بها الأسرى و المخطوفون في ثورات «التحرير » .

و حين تسنى الإمساك بالسلطة قذفت في وجه المعارضين قوانين الاجتثاث و العزل و « قوائم العار »، و هي ليست اختراعا « ربيعياً » فحقوق الملكية تعود للديمقراطي الفذّ - بول بر يمر-  مؤلف قانون « اجتثاث البعث » في العراق. هذا القانون الذي هلل له البعض و لا يزال مسؤول عن عمليات التصفية والطرد من الوظيفة و مصادرة المنازل و تشريد الملايين خارج الوطن. لقد طالت الحملة آلاف المواطنين العراقيين من كبار الضباط إلى صغار الموظفين ليحل محلهم ابناء التنظيمات الطائفية و الميليشياوية و الوصوليين و من أفسد الحياة السياسية، و ليٍُرمى بآلاف العاطلين إلى أحضان الإرهاب و الإجرام. هو الفكر الاقصائي الذي ينخر السياسيين العراقيين على امتداد بلاد الرافدين. و في مصر أقر الإخوان و السلف في البرلمان الذي هيمنوا عليه، قبل أن تحله المحكمة الدستورية، قانون العزل السياسي الذي فُصّل خصيصا للمرشح أحمد شفيق المنافس الأقوى و الأشرس للإخوان.

هو القانون ذاته الذي أقرته الحكومة الليبية لتجريم «تمجيد القذافي » الذي صب الزيت على الحرب القبلية المشتعلة في عموم ليبيا  «الديمقراطية » و تم الغاؤه لاحقا ً.

القوى التي تسن قوانين العزل و الاجتثاث و التي تشرّع للقمع و الاضطهاد و تتجاوز الدساتير و القوانين إنما تدوس على أهم المبادئ الثورية ألا وهي العدالة و سيادة القانون، و تحول الضحية إلى جلاد و تكرس نظاماً قمعياً تقوده قوى تدّعي الحرية والتغيير.

و نحن هنا لا نجادل في أمر حل الأحزاب التي كانت وعاءً  وغطاءاً للطغاة و إنما نجادل في ثورية هؤلاء الذين جاؤوا إلى السلطة أو هم في الطريق اليها  تحت شعار التغيير و مدى التزامهم بالقيم الثورية و الانسانية