بولندا على مفترق طرق

بولندا على مفترق طرق

شهد العقد الأخير في بولندا تذبذباً بين مشروعين متعارضين: أوروبي ليبرالي يربط بولندا بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وقومي سيادي يركز على الهوية البولندية ويستفيد من الشعبوية العالمية. يعكس فوز ناوروتسكي صعود التيار الثاني، لكنه يواجه معارضة قوية من البرلمان والحكومة، مما يضع بولندا أمام اختبار جديد لاستقرارها وتوازن سياساتها في أوروبا المقسومة. إن نجاح رئيس جديد قريب من ترامب يعني أنه ضد السياسات السابقة على الأقل، وهذا مؤشر على التغيرات السياسية التي تنشأ في أوروبا الشرقية، ورغم أن الرئيس في بولندا ذو صلاحيات محدودة لأن الصلاحيات الأساسية تكون بيد رئيس الوزارة غالباً، ولكن هذا مؤشر على تطور الأمور. وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بولندا هي بلد محوري في أوروبا الشرقية، فهي قادرة على خلق الأجواء والتأثير على جمهوريات البلطيق ورومانيا والمجر وأوكرانيا وحتى بلغاريا.

إن حدوث هذه التغيرات في بلد محوري كبولندا ينذر بتغيرات عميقة في أوروبا الشرقية وأوروبا عموماً وبالتالي في أوروبا الغربية.

كان من الواضح هيمنة اليمين الشعبوي في الفترة (2015-2023) من خلال:

  • سيطرة حزب «القانون والعدالة» (PiS) إذ هيمن الحزب ذو التوجه القومي-المحافظ على المشهد السياسي بعد فوزه الانتخابي في 2015، مع تعزيز سلطة الحكومة على القضاء والإعلام عبر إصلاحات قضائية مثيرة للجدل، مما أثار نزاعات مع الاتحاد الأوروبي حول سيادة القانون.
  • السياسات الاجتماعية المحافظة، إذ ركز الحزب على القيم الكاثوليكية التقليدية، مع تقييد حقوق الإجهاض، مما عمق الانقسامات المجتمعية بين الريف (المؤيد) والمدينة (المعارض).
  • العلاقات الدولية، إذ عزز تحالفاً وثيقاً مع الولايات المتحدة، خاصة خلال عهد ترامب، مع تشديد الموقف من روسيا ودعم أوكرانيا عسكرياً بعد العملية العسكرية الروسية 2022. كما طالب بألمانيا بدفع تعويضات عن جرائم الحرب العالمية الثانية.

 

لكن منعطفاً شديداً حصل مع التحول الليبرالي وصعود المعارضة (2023-2024) من خلال:

  • فوز ائتلاف «منصة المدنية» وذلك في الانتخابات البرلمانية 2023، إذ تمكن تحالف بقيادة دونالد توسك (رئيس الوزراء السابق) من إنهاء حكم PiS.
  • مع التركيز على تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من التوتر وتحديات اقتصادية، إذ واجهت الحكومة الجديدة تضخماً حاداً.
  • وتداعيات الحرب الأوكرانية، مع ضغوط لخفض الدعم للاجئين الأوكرانيين بسبب تكاليفه الاجتماعية.

لكن نتائج الانتخابات الحالية فسحت المجال للعودة للقومية مع فوز كارول ناوروتسكي في أيار 2025، حيث فاز مرشح اليمين كارول ناوروتسكي (42 عاماً) بالرئاسة بنسبة 50.89%، مدعوماً من PiS وبشكل غير مباشر من ترامب، متغلباً على منافسه الليبرالي رافال تشاسكوفسكي.

بلغت نسبة المشاركة 72.8%، وهي الأعلى منذ انتخابات 2020، مما يعكس الاستقطاب الحاد في المجتمع البولندي.

ويتميز برنامجه السياسي داخلياً بتشديد الرقابة على الحدود مع ألمانيا، ورفض «القيم الليبرالية الغربية»، والتركيز على الأولوية للبولنديين في الخدمات الاجتماعية.  وخارجياً بتخفيض الدعم لأوكرانيا، ومعارضة انضمامها للناتو، وتأييد طلب ترامب برفع إنفاق الناتو الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي (مدعوماً بإنفاق بولندا البالغ 4.7٪).

 

   الخلفية السياسية لناوروتسكي

 

 هو مرشح مستقل مدعوم من حزب «القانون والعدالة» القومي الشعبوي (حكم خلال 2015–2023)، ويُعتبر من أبرز المعجبين بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد زار البيت الأبيض خلال حملته الانتخابية، حيث قال له ترامب: «سوف تفوز».

أما بالنسبة لتأثير الفوز على السياسة الداخلية في بولندا فمن المتوقع أن يؤدي إلى:

  • إعاقة برنامج حكومة دونالد توسك (المؤيد لأوروبا)، خاصة فيما يتعلق بحقوق المثليين، وقوانين الإجهاض، وتعزيز القيم المحافظة، واحتمالية انتخابات نيابية مبكرة.
  • وقد يؤدي فوزه إلى حل البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة، مما يعزز موقع حزب «القانون والعدالة».
  • ويشكل فوز ناوروتسكي استقطاباً مجتمعياً يقسم الناخبين إذ وصفت الخبيرة السياسية آنا ماتيرسكا سوسنوفسكا الانتخابات بأنها «صدام حضارات حقيقي» بسبب الفجوة الواسعة بين سياسات المرشحين. إذ يطالب أنصار تشاسكوفسكي بتكامل أوروبي أعمق فيما يرفض أنصار ناوروتسكي التيارات الآتية من الغرب.

إن هذا التغير قد يؤثر بشكل جذري على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي من خلال تجديد التوترات، إذ يُعارض ناوروتسكي التكامل الأوروبي الأعمق، ويدعو لتعزيز سيادة بولندا داخل الاتحاد، بما في ذلك رفض الضغوط الأوروبية.

 ونلاحظ ردود الفعل الأوروبية، فعلى الرغم من تهنئة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين له، فقد حثه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على «احترام سيادة القانون».

وعلى صعيد التداعيات الإقليمية يُنظر لانتخابه كعلامة على تصاعد القومية في أوروبا الشرقية، مع تشجيع أحزاب مماثلة في دول البلطيق ورومانيا والمجر، خاصة مع تصريحات تأييد من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي أشاد بـ«الرؤية السيادية» تجاه بروكسل. وقد أشادت زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان بفوزه كـ«إنكار لأوليغارشية بروكسل». إذ يُنذر الوضع بتحول في سياسات أوروبا الشرقية نحو مواقف أكثر تشكيكاً في التكامل الأوروبي. لكن التأثير الأكبر على ما يبدو هو في العلاقات مع أوكرانيا، حيث بولندا شريان حيوي للمساعدات العسكرية الغربية لكييف. وأي تقليص للدعم البولندي قد يُضعف الموقف الأوكراني. ويتوقع تقويض الدعم لأوكرانيا حيث يعارض ناوروتسكي انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ويسعى لخفض المساعدات المقدمة لمليون لاجئ أوكراني في بولندا. كما زار في الساعات الأخيرة من حملته، نصباً تذكارياً لضحايا «الإبادة الجماعية» التي ارتكبها القوميون الأوكرانيون ضد البولنديين خلال الحرب العالمية الثانية، مما أثار حفيظة كييف. أما على صعيد التحالف مع الولايات المتحدة فيُعتبر فوزه انتصاراً لترامب، حيث حظي بدعم علني من وزيرة الأمن الداخلي الأمريكي كريستي نويم التي صرحت: «يجب أن يكون الرئيس المقبل».

 

فوز ناوروتسكي ليس مجرد تغيير محلي

 

يعكس فوز ناوروتسكي تحولاً في المشهد السياسي لأوروبا الشرقية من خلال تعزيز تحالفات جديدة مع قادة مثل أوربان وترامب وتحديد التضامن الأوروبي خاصة في الملف الأوكراني وسياسات الهجرة، مع احتمال قوي لتأثير الدومينو، مما يهدد الوحدة الأوروبية في مواجهة التحديات المشتركة.

 

آخر تعديل على الجمعة, 06 حزيران/يونيو 2025 22:46