الذكاء الاصطناعي الصيني في معركة كسر الهيمنة التكنولوجية الأمريكية (2)
لورينزو ماريا باتشيني* لورينزو ماريا باتشيني*

الذكاء الاصطناعي الصيني في معركة كسر الهيمنة التكنولوجية الأمريكية (2)

تصاعَدَ الخطاب الأمريكي حول «التهديد الصيني» في الذكاء الاصطناعي، فحظرت وزارة التجارة الأمريكية استخدام «ديب سيك» في الأجهزة الحكومية، وصولاً إلى تصريحات وزير التجارة هوارد لوتنيك الداعية إلى فرض قيودٍ أشد على نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، وخاصةً الصينية منها. هذا ليس من قبيل الصدفة، فكل تقدم تكنولوجي أحرزته الصين في السنوات الأخيرة قوبل بقلقٍ بالغ من الولايات المتحدة، وأمنياتها بأنّ «الصين ينبغي ألّا تفوز».

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

أضافت واشنطن بالفعل 80 شركة إلى قائمة مراقبة الصادرات، أكثر من 50 منها مقرها الصين، متهمةً إياها بالسعي للحصول على خبرات متقدمة في الحوسبة الفائقة والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا «الكوانتوم» للتطبيقات العسكرية. علاوة على ذلك، يزعم التقرير السنوي للاستخبارات الأمريكية حول التهديدات العالمية، الصادر في مطلع نيسان الماضي، أن بكين تُطوّر نماذج لغوية للذكاء الاصطناعي لتطبيقها بنشر الأخبار الكاذبة، وتسعى إلى تجاوز الولايات المتحدة كقوة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. وبمجرد أن تُظهر بكين بوادر تقدم في قطاع استراتيجي ما، تُصنَّف فوراً كتهديد، وتطبَّقُ إجراءاتٌ تقييدية ضدّها.

بالنظر إلى الماضي، نجد أن الولايات المتحدة قد قيَّدت بالفعل وصول الشركات الصينية إلى سوقِها في قطاعي البطاريات والسيّارات الكهربائية، إلّا أن الصعوبات التكنولوجية الداخلية حالت دون مواكبتها. والآن، تُطبّق الاستراتيجية نفسها على الذكاء الاصطناعي. فمن فرض حظر على بيع الرقائق للشركات الصينية إلى الضغط على حلفائها للالتزام بالقيود، يهدف كل إجراء إلى إقصاء الصين من النظام التكنولوجي العالمي. ومع ذلك، يُظهر التاريخ أن هذه القيود لم تُفلح، بل غالباً ما كان لها تأثير عكسي، إذ حفّزت الابتكار الصيني وزعزعت الهيمنة الأمريكية على سلاسل التوريد الدولية.

تحدّيات الموارد الطبيعية والطاقة

لا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل فحسب، بل يضغط أيضاً على أنظمة الطاقة والبنية التحتية. وعلى الرغم من إحجام شركات التكنولوجيا الكبرى عن كشف استهلاك الطاقة في مراكز البيانات الخاصة بها، فإن الذكاء الاصطناعي، وخاصة نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)، يتطلب كميات هائلة من الموارد الطبيعية والطاقة. ووفقاً لتوقعات وكالة الطاقة الدولية (IEA)، ستشكل مراكز البيانات في الصين بحلول عام 2026 ما يقرب من 6% من إجمالي الطلب على الكهرباء في البلاد. ويتطلب إنتاج الطاقة وتبريد هياكل البنية التحتية هذه كميات هائلة من المياه. وتقدِّر منظّمة «مَخاطر الصين المائية»، ومقرها هونغ كونغ، أنّ إجمالي استهلاك المياه في مراكز البيانات الصينية قد يتجاوز 3 مليارات متر مكعب بحلول عام 2030، وهي قيمة تضاهي استهلاك سكان سنغافورة السنوي من المياه. وقد تؤدّي ما تسمَّى بـ«حرب المائة نموذج للذكاء الاصطناعي» في الصين إلى منافسة مفرطة على موارد الحوسبة المحدودة بالفعل، ممّا يضع البلاد في صورة سيئة فيما يتعلق بالقضايا البيئية.

يُمثل التوفيق بين طموحات الذكاء الاصطناعي وأهداف المناخ تحدّياً هائلاً للصين، التي تهدف إلى الوصول لذروة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2030، مُعتمدةً استراتيجيةً لخفضِ هذه الانبعاثات قائمةً على ركيزتين: فبدلاً من الاقتصار على احتواء استهلاك الطاقة، تهدف الحكومة الصينية إلى التحكُّم في كثافة الكربون لكلِّ وحدة من الناتج المحلي الإجمالي، وإجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وعلى الرغم من أنَّ الصين رائدة عالمياً في إنتاج الطاقة المتجدّدة، إلّا أنّ العوامل الاجتماعية والاقتصادية والعقبات الهيكلية التي تعترض شبكة الكهرباء تعني أن الفحم لا يزال يُمثّل ثلثي مزيج الطاقة الوطني. ومع التوسع المُتسارع في البنية التحتية للحَوسبة لدعم الطلب المتزايد، هناك خطر من أنَّ أنظمة الطاقة في البلاد لن تكون قادرة على مواكبة طفرة الذكاء الاصطناعي. للتخفيف من هذه المشكلة، تعمل الحكومة الصينية على نقل مراكز البيانات والمحاور الحاسوبية نحو مصادر طاقةٍ أنظف وأرخص، مع إدخال معايير أكثر صرامة بشأن كثافة الطاقة وتحسين التنسيق في استخدام الموارد الحاسوبية.

ومع ذلك، يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُتيح فرصاً لقطاع الطاقة الصيني؛ حيث يكتسب مفهوم «العقل الذكي للطاقة» رواجاً متزايداً بين صانعي السياسات والباحثين التابعين للدولة، الذين يُشجعون على دمج قوة الحوسبة والذكاء الاصطناعي واقتصاديات الطاقة. وقد خفّض مشروعٌ حكوميّ، يُعرف باسم نظام «تيانشو1»، استهلاكَ الطاقة بأكثر من 15% من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة للتنبُّؤ بشبكات الكهرباء وإدارتها وصيانتها. ويسعى مطوِّرو برامج الذكاء الاصطناعي الصينيون أيضاً إلى الاستفادة من هذه الفرصة، باستهداف عملاء جدد وتصميم نماذج مُخصَّصة للتطبيقات الصناعية. على سبيل المثال، تعاونت شركة كهرباء جنوب الصين مع شركة «بايدو» لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي لقطاع الطاقة، وما زال هذا الاتجاه بحاجة لمزيد من الجهود والابتكارات للوصول إلى نتائج مضمونة النجاح.

تحدّيات خارجية

تتفاقم هذه التحديات الداخلية بفعل عوامل خارجية، ولا سيّما اعتماد الصين على تكنولوجيا أشباه الموصلات الأمريكية لتطوير الذكاء الاصطناعي. وقد اتخذت المنافسة بين الصين والولايات المتحدة في هذا المجال سمات «سباق تسلُّح تكنولوجي» حقيقي. في تشرين الأول 2022، فرضت إدارة بايدن قيوداً على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، بما في ذلك أحدث وحدات معالجة الرسومات (GPUs)، وهي ضرورية لمعالجة نماذج التعلُّم الآلي. وتشمل هذه القيود أيضاً الأدوات والبرامج والخبرات اللازمة لإنتاج رقائق متطورة. وقد تم تشديد هذه الإجراءات بشكل أكبر في تشرين الأول 2023.

تزيد القيود الأمريكية، التي تتجاوز الحدود الإقليمية من تعقيد إدارة الطاقة الصينية، إذ تُجبر الشركات المحلية على استخدام شرائح أقدم وأقل كفاءة لأنشطة الذكاء الاصطناعي. وأقرّ الرئيس التنفيذي لشركة «ديب سيك» بأن النماذج الوطنية تتطلب موارد حسابية تفوق تلك الأمريكية بأربعة أضعاف، بينما لا تزال متأخرة جيلاً كاملاً في الأداء. وقدّرت دراسة أجراها باحثون في جامعة ييل أنه في حال استخدام الصين للشرائح المقيدة، فإنَّ وفورات الطاقة الناتجة ستعادل الاستهلاك السنوي للطاقة لما بين 12,000 و67,000 أسرة أمريكية. علاوة على ذلك، تُقلل الحمائية من إمكانيات تحسين الخوارزميات، مما يُعرّض هدر الطاقة لاستهلاك يعادل استهلاك 1.8 مليون منزل أمريكي، في كل من الصين والولايات المتحدة.

وبما أنّ العديد من الشركات تتنافس على موارد حاسوبية محدودة، تعمل بعض المختبرات الأكاديمية والشركات على استكشاف بدائل أكثر كفاءة، مثل الذكاء المستوحى من وظائف الدماغ. وتُمثل النماذج العصبية الشكلية، القائمة على هياكل الدماغ والأقل استهلاكاً للطاقة، منظوراً عالمياً واعداً، وتُحرز الصين تقدماً ملحوظاً في هذا المجال.

ماذا يعني الذكاء الاصطناعي الصيني لأوروبا؟

رغم الصعوبات، لا تزال الصين المنافس الرئيس للولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي. بالنسبة لصانعي السياسات والشركات والمجتمع المدني في أوروبا، لم يعد تجاهل المنظومة التكنولوجية الصينية المتنامية خياراً، ولا سيَّما بالنظر إلى التقدم المحرز نحو أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة.

أبرزت أبحاث معهد «ميركاتور» الألماني للدراسات الصينية أنّ الروابط بين منظومتي الذكاء الاصطناعي الأوروبية والصينية أعمق ممَّا يُعتقد، ولا سيّما بفضل التعاون البحثي. ومع ذلك، تلعب التدخّلات السياسيّة الأمريكية دوراً سلبيّاً. وعلى الرغم من الخلافات، لا تزال المحادثات الثنائية مع الولايات المتحدة مستمرة بشأن هذه القضايا. كما وقّعت الصين على إعلان بليتشلي، الذي انبثق عن قمة أمن الذكاء الاصطناعي التي استضافتها المملكة المتحدة عام 2023. وباستثناءات قليلة، لم يُبدِ الاتحاد الأوروبي حتى الآن اهتماماً يُذكَر بتجاوز الخلافات السياسية والقيميّة لفهم النهج الصيني في تنظيم الذكاء الاصطناعي بشكل أفضل، والتعاون معه عند الضرورة.

إنَّ التهديد الحقيقي لا يتمثَّل في التقدُّم التكنولوجي الصيني، بل في محاولات الولايات المتحدة وأوروبا عرقلة الابتكار العالَمي، والذي ينبع في الجوهر من قلقهما العميق وإدراكهما المتزايد للتراجع الشامل والمتسارع لوزنهما التاريخي في جميع المجالات، من الاقتصاد إلى العلوم والتكنولوجيا والابتكارات (حتى العسكرية منها) وصولاً إلى السياسة العالمية.

* لورينزو ماريا باتشيني: بروفسور إيطالي في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، مختصّ بدراسة السياسة والاقتصاد الصيني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1241