الذكاء الاصطناعي الصيني في معركة كسر الهيمنة التكنولوجية الأمريكية (1)
سعت الحكومة الأمريكية، منذ عام 2018، إلى عرقلة تطوير الذكاء الاصطناعي الصيني، بفرض قيود على صادرات الرقائق، ومنع الوصول إلى أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي المُطوّرة في الولايات المتحدة. لكن إطلاق الصين لنموذج الذكاء الاصطناعي DeepSeek (المَسعَى العميق) افتتح معركة كسر هذا الحصار، مُظهراً مرونة الصين وقدرتها على الابتكار. ولم تتوقف الصين عند هذا، فمنذ إطلاق «ديب سيك»، شهدت تدفقاً هائلاً من نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة عالية الأداء، مثل «كيو-وين» من شركة «علي بابا»، و«دوباو» من شركة «بايت دانس»، و«هون-يوان» من شركة «تينسينت»، و«إيرني» من شركة «بايدو».
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
تسعى الشركات الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي إلى تحقيق النجاح، على غرار ما حققته في قطاعات السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والأدوية، التي تغزو الأسواق؛ من خلال إحداث تغيير جذري في اقتصاديات هذه القطاعات. فهذه الشركات تسعى إلى التفوق على منافسيها من خلال جعل تبنّي الذكاء الاصطناعي منخفض التكلفة وواسع النطاق، وبالتالي إقصاء المنافسين الذين يعتمدون نماذج أعمال عالية التكاليف وفاحشة الأرباح.
وسرعان ما بدأت الولايات المتحدة - منذ ربيع العام الجاري 2025 على الأقل - باستبعاد «ديب سيك» من هيئاتها الحكومية، بينما تضغط شركة «أوبن إيه آي» OpenAI الأمريكية المطوِّرة لـ«تشات جي بي تي»، لحظر «ديب سيك» على نطاق واسع في الولايات المتحدة. ومن المحتمل أيضاً أن تضغط الحكومة الأمريكية على حلفائها لفرض قيود على «ديب سيك»، كما فعلت مع هواوي. وقد تواجه شركات صينية أخرى في مجال الذكاء الاصطناعي قيوداً مماثلة قريباً.
كانت استجابة الشركات الصينية مثيرة للاهتمام؛ وعلى عكس منافسيها الأمريكيين، جعلت هذه النماذج مفتوحة المصدر ومجّانية: فهي متاحة لأيّ شخص في العالم للتحميل والتعديل والدمج. ولكن لماذا تتبنى الشركات الصينية هذه الاستراتيجية؟
منذ إطلاق ChatGPT (أشهر نموذج ذكاء اصطناعي أمريكي) في تشرين الثاني 2022، اتبعت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، مثل «أوبن إيه آي» ومايكروسوفت وغوغل وميتا، استراتيجيةً متماثلة: فقد قاموا بتجميع شرائح الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً من شركة «إن-فيديا» Nvidia، واستثمروا موارد ضخمة في مراكز البيانات، وطوروا نماذج لغوية خاصة ومغلقة (غير مفتوحة المصدر)، وطبقوا رسوم اشتراك أو ترخيص عالية لتحقيق الدخل من منتجاتهم.
تتعامل الشركات الأمريكية مع الذكاء الاصطناعي كمورد حصري احتكاريّ، وتحد من الوصول إلى أقوى نماذجها من خلال جدران الدفع. وتقوم شركات «أوبن إيه آي» و«غوغل ديب مايند» و«أنثروبك» بتقييد الوصول إلى أكثر نماذجها تقدماً، ولا تتيحها إلا من خلال اشتراكات مدفوعة أو عقود مع شركات. وتُقدَّر قيمة برامج الذكاء الاصطناعي هذه بمليارات الدولارات، ويتوقع المستثمرون عوائد مالية ضخمة.
عملياً، يعتمد استثمار شركات وادي السيليكون في الذكاء الاصطناعي على نموذج أعمال ذي تكلفة عالية وهامش ربح مرتفع، مع حماية الملكية الفكرية. ويدعم هذا النموذج أيضاً التكاليف الباهظة للوصول إلى موارد الحَوسبة، التي لا تتوفر إلا لأغنى شركات التكنولوجيا، ممّا يعيق المنافسة فعليّاً ويعزِّز الاحتكار.
من ناحية أخرى، فإن الاستراتيجية الصينية معاكسة تماماً. فبينما يصعب الحصول على موارد الحوسبة المتقدمة، تُجبَر حتى الشركات الصينية الكبرى على تطوير حلول مبتكَرة لإنشاء نماذج عالية الأداء دون الحاجة إلى استخدام أحدث الرقاقات (شرائح أنصاف النواقل). فبدلاً من التركيز على المعالجة الخام، تُركِّز الشركات الصينية على الهندسة الذكية وتحسين الخوارزميات لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها. ومع وصول نماذجها إلى مستوى نظيراتها في الولايات المتحدة، قررت الشركات الصينية جعل منتجاتها مفتوحة المصدر لمشاركة الموارد مع المطوِّرين حول العالم وتسريع وتيرة التحسينات.
مزايا النهج الصيني بتطوير الذكاء الاصطناعي
(1) الاعتماد المنخفض على شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة. (2) متطلبات أقل للنفقات الرأسمالية. (3) اللامركزية في التطوير للاستفادة من مواهب الذكاء الاصطناعي العالمية. (4) فرص للمطورين الذين لديهم إمكانية الوصول إلى شرائح أكثر تقدماً للمساهمة في تحسين النموذج. (5) تكرارات أسرع: يتقدم الذكاء الاصطناعي من خلال التحسين المستمر، حيث يعتمد كل إصدار جديد على الإصدار السابق لتحسين القدرات وتحسين الكفاءة. (6) بفضل المصدر المفتوح، تعمل الشركات الصينية على إنشاء منظومة تمكّن المطورين من جميع أنحاء العالم من المساهمة في تحسين النماذج، دون الحاجة إلى تحمُّل جميع تكاليف التطوير.
يمكن لمثل هذا النهج أن يُحدث تحوّلاً جذرياً في اقتصاد الذكاء الاصطناعي. إذا حققت النماذج الصينية مفتوحة المصدر القوة نفسها التي تتمتع بها النماذج الأمريكية المغلقة، فسوف تزداد الشكوك في جدوى نموذج الأعمال القائم على تحقيق الربح من نماذج الذكاء الاصطناعي الاحتكارية. فلماذا ندفع ثمن النماذج المغلقة في حين توجد بدائل مجانية ومفتوحة المصدر بالقوة نفسها؟
من خلال جعل نماذج الذكاء الاصطناعي الأساسية مجانيةً ومتاحةً للجميع، يمكن للشركات الصينية القضاء على نموذج الأعمال القائم على الدفع مقابل الاستخدام، والذي يعتمد على أنظمة مغلقة ومدفوعة، والتي تتطلب استثمارات رأسمالية ضخمة. كما أن هذا النهج من شأنه أن يُقلل من أهمية السيطرة على الرقاقات، ويُلغي المزايا الاقتصادية لشركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية.
آفاق التطبيقات الواسعة
بالطبع، ليس نموذج المصدر المفتوح المجَّاني هدفاً بحدّ ذاته، بل هو جزء من استراتيجية أوسع. الهدف النهائي للشركات الصينية هو نقل الذكاء الاصطناعي من النماذج الأساسية إلى التطبيقات، وهي مجالات تتمتع فيها الصين بمزايا ملموسة، مثل البيانات والسوق. سيتحقق الربح على مستوى التطبيقات مع دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات وحالات الاستخدام الاستهلاكية.
بدلاً من جني الأرباح من نماذج الذكاء الاصطناعي بحد ذاتها، ستُحقق الشركات الصينية أرباحاً من خلال بيع حلول الذكاء الاصطناعي، وبناء ذكاء اصطناعي متكامل، ودمجه في السلع والخدمات الاستهلاكية. هناك فرص ربح هائلة في مجالات مثل الروبوتات البشرية، والقيادة الذاتية، والبنية التحتية الذكية، والتطبيقات الصناعية والصحية، وغيرها الكثير.
الحكومة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني تعمل بالفعل على تسريع تطبيق الذكاء الاصطناعي في مؤسساتها الحكومية، بدءاً من الاتصالات والخدمات المصرفية وصولاً إلى الموانئ والطاقة والخدمات العامة كالمستشفيات والمدارس والمكاتب الحكومية. وكذلك تتبنى الشركات الصينية الخاصة الذكاء الاصطناعي في قطاعات السيارات والإلكترونيات والأدوية والسلع الاستهلاكية. وبمجرد انتشاره على نطاق واسع، سيصبح الذكاء الاصطناعي متاحاً للجميع في كل مكان.
طبيعة نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية مفتوحة المصدر ستُحفّز المنافسة العالمية، ممّا يُهيِّئ بيئة تطوير عادلة. وتسعى الصين إلى الاستفادة القصوى من هذا الوضع، بفضل سوقها الضخم والبيانات الضرورية لتطوير أفضل التطبيقات. وإذا نجحت الصين في هذا المسعى، فإن نجاحها في مجال الذكاء الاصطناعي سيكون بمثابة انتصار مماثل لذلك الذي تحقق في قطاع المركبات الكهربائية، حيث «غيَّرت المسارات» وتغلبت على المنافسة بنهج أكثر مرونة وإبداعاً.
«الستار الحديدي التكنولوجي» لأمريكا قد يخنقها
بالإضافة إلى تصعيد خطابها المعادي للصين، فإن قيود الولايات المتحدة الأمريكية قد تأتي عليها بنتائج عكسية. ستدفع هذه القيود الشركات الصينية إلى تكثيف أبحاثها المستقلة، مما يُسرّع استقلاليتها التكنولوجية.
وبينما يعتمد تقدم الذكاء الاصطناعي على التعاون العالمي، تُصرّ الولايات المتحدة على تحويله إلى قضية جيوسياسية، مُعززةً العزلة والانقسام، بل وتذهب إلى حدّ بناء ما يشبه «الستار الحديدي التكنولوجي». ولكن الحديث عن «تهديد الذكاء الاصطناعي الصيني» هو في الواقع انعكاس لانعدام الأمن الأمريكي وخوفه من فقدان الريادة في هذا القطاع.
* لورينزو ماريا باتشيني: بروفسور إيطالي في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، مختص بدراسة السياسة والاقتصاد الصيني.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1240