صدام بين «الترامبيّين» والعَولَميّين بشأن تمويل البحث العلمي في أمريكا
مجلة الطبيعة مجلة الطبيعة

صدام بين «الترامبيّين» والعَولَميّين بشأن تمويل البحث العلمي في أمريكا

أعلنت مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية (NSF) في 18 نيسان الجاري أنّها ستبدأ بإنهاء منح الأبحاث النشطة، وتم بالفعل تجميد جميع منح البحث الجديدة في المؤسسة، فيما يبدو أنه بأوامر من وزارة كفاءة الحكومة (DOGE) التي أنشأها دونالد ترامب في مطلع العام الجاري بقيادة إيلون ماسك لخفض الإنفاق وتقليص عدد العمال في جميع القطاعات الحكومية الأمريكية.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

في تحديث لأولويات الوكالة، كتب مدير مؤسسة العلم الأمريكية NSF، سيثورمان بانتشاناثان، أنّ الجهود المبذولة لتوسيع المشاركة في البحث «يجب ألا تُفضّل مجموعات معينة على حساب مجموعات أخرى». كما تراجع وزارة كفاءة الحكومة قائمة بمنح البحث النشطة، التي قيّمتها مؤسسة العلوم الوطنية في شباط، لشروط مرتبطة بالتنوع والمساواة والشمول (DEI). وتدرس المؤسسة إنهاء أكثر من 200 منها، وفقاً لما ذكره موظفو المؤسسة لمجلة Nature.

تخفيض جوائز زمالة الدكتوراه المرموقة إلى النصف

يقول موظفو مؤسسة العلم الوطنية الأمريكية إن البرنامج وجّه مئات المقترحات البحثية التي تمت الموافقة عليها خلال عملية مراجعة متعددة الخطوات - ولكن لم تُستكمل بعد - لإعادة إرسالها إلى مسؤولي برامج المؤسسة، الذين طُلب منهم القيام بـ«أعمال تخفيفية» دون أي تفاصيل أخرى. وكانت مجلة ساينس أول من أعلن عن وصول برنامج DOGE إلى المؤسسة هذا الأسبوع.
بميزانية قدرها 9 مليارات دولار أمريكي، تُعدّ مؤسسة العلوم الوطنية واحدة من أكبر مُموّلي البحوث الأساسية في العالَم. منذ بداية رئاسة دونالد ترامب الثانية للولايات المتحدة، شهدت الوكالة تغييرات جذرية؛ فقد جمّدت جميع مدفوعات المنح ثم رفعت تجميدها في شباط بناءً على أوامر قضائية؛ وفصلت موظفيها الذين كانوا تحت الاختبار في شباط، ثم أعادت توظيف نصفهم بعد أسابيع. وفي وقت سابق من هذا الشهر، خفضت الوكالة برنامج زمالة الدراسات العليا إلى النصف، حيث لم تُقدّم سوى 1000 وظيفة بدلاً من 2000 وظيفة المعتادة.
وخضعت مؤسسة العلوم الوطنية (NSF) لتدقيق مكثف عقب إصدار مكتب تيد كروز، السيناتور الجمهوري عن ولاية تكساس والذي يرأس حالياً لجنة العلوم بمجلس الشيوخ، تقريراً في أكتوبر 2024. واتهم التقرير 3483 منحة بحثية مُنحت بين كانون الثاني 2021 ونيسان 2024 من قِبل مؤسسة العلوم الوطنية خلال إدارة سلف ترامب، جو بايدن، بأنها «ذهبت إلى مشاريع مشبوهة عززت مبادئ التنوع والمساواة والشمول (DEI)»، ممّا أدى إلى «إهدار» ملياري دولار، بحسب التقرير. وحديثاً أصدر الديمقراطيون في لجنة العلوم والفضاء والتكنولوجيا بمجلس النواب الأمريكي تحليلاً لتقرير كروز. ويزعم التحليل وجود عيوب رئيسية في التقرير، مشيراً إلى أنه «يُهدد الأمن الاقتصادي والوطني للولايات المتحدة» من خلال «تقويض العمل المهم للباحثين العلميين والمعلمين والمؤسسات».
وقال متحدث باسم مؤسسة العلوم الوطنية (NSF) إنها «تواصل منح الجوائز» ورفَض الإجابة على أسئلة مجلة Nature. يقول كوش ديساي، المتحدث باسم البيت الأبيض، إن «إدارة ترامب ملتزمة بضمان توافق الإنفاق البحثي الفيدرالي مع أولويات المواطنين الأمريكيين العاديين».
ولفهم الوضع في مؤسسة العلوم الوطنية بشكل أفضل، تحدثت مجلة نيتشر مع خمسة من موظفيها، بشرط عدم الكشف عن هويتهم لأنهم غير مخولين بالتحدث إلى الصحافة.

وصول فريق عمل برنامج إدارة المنح

بينما زار فريق عمل برنامج إدارة المنح وكالات أمريكية أخرى خلال الشهرين الماضيين - وقام في بعض الحالات بتفكيكها بالكامل - حبس موظفو مؤسسة العلوم الوطنية أنفاسهم جميعاً.
لكن يوم الأربعاء الماضي، حوّل فريق عمل برنامج إدارة المنح انتباهه إلى منح مؤسسة العلوم الوطنية، وهي محور مهمة الوكالة. تُظهر وثائق اطلعت عليها مجلة نيتشر أن اثنين من أعضاء فريق عمل برنامج إدارة المنح، هما لوك فاريتور وزاكاري تيريل، مُنحا حق الوصول إلى أنظمة إدارة المنح، واستخدما هذا الحق لمنع حصول منح على تمويل مُعتمد بالفعل ولكنه في انتظار الموافقة النهائية. يقول أحد مسؤولي برامج مؤسسة العلوم الوطنية: «هذا، بالطبع، يثير قلقنا».
تمر مشاريع البحث في مؤسسة العلوم الوطنية بعدة خطوات قبل الموافقة عليها. تُقدم المقترحات أولاً إلى مسؤولي برامج المؤسسة ذوي الخبرة في المجال العلمي الذي تركز عليه المشاريع. إذا اجتازت المقترحات موافقة المسؤولين، يُكلف هؤلاء الموظفون خبراء مستقلين من خارج الوكالة بإجراء مراجعة. فقط أقوى الطلبات تجتاز هذه الخطوة - معدل النجاح النموذجي يتراوح بين 20% و30%. ثم يُعطي مديرو الأقسام في مؤسسة العلوم الوطنية الموافقة النهائية ويُرسلون المنح إلى قسم المنح والاتفاقيات للبت فيها. هذا هو المكان الذي تُعاد منه المنح حالياً.
يقول الموظفون إنّ المقترحات التي تحصل على الموافقة النهائية تُموّل دائماً - حتى الآن. وتباطأت منح الأبحاث الجديدة في الوكالة بمقدار النصف، مقارنةً بالعام الماضي، وفقاً لما ذكرته مجلة ساينس. وفي 16 نيسان توقفت تماماً.

تقرير تحت النقد

في شباط، بدأت الوكالة مراجعة جميع منحها للتأكد من أنها لا تُخالف الأوامر التنفيذية الصادرة عن ترامب بشأن برامج التنوع والإنصاف والشمول، التي صنّفتها إدارة ترامب على أنها «متطرفة ومُبذّرة» في ذلك الوقت، كانت تُشير إلى المنح التي تحتوي على مئات الكلمات التي ادعى تقرير كروز أنها تُشير إلى أيديولوجيات يسارية وليست علمية بحتة - مثل «النساء» و«الرجال السود» و«عدم المساواة». منذ عام 1980، فرض الكونغرس الأمريكي على مؤسسة العلوم الوطنية، كجزء من مهمتها، توسيع نطاق مشاركة الفئات غير الممثلة تمثيلاً كافياً في العلوم.
خلص تحليل مجلس النواب إلى أن التقرير أشار بشكل غير ملائم إلى منح في مؤسسات تخدم «الأقليات»، لأنّ المنح أشارت إلى وضع الأقليات في المؤسسة. كما وجد التقرير أن تقرير كروز تضمن «سلسلة من الأخطاء المحرجة»، بما في ذلك إشارته إلى منح لا علاقة لها إطلاقاً بمبادرات التنوع والإنصاف والشمول، مثل التنوع الجيني لنبات الأرز وإناث فقمات النمر. إضافةً إلى ذلك، كانت 14% من أصل 3483 منحة مكررة، لذا تم احتسابها مرتين.
أرسلت زوي لوفغرين، النائبة الأمريكية عن ولاية كاليفورنيا والديمقراطية البارزة في لجنة مجلس النواب للعلوم والفضاء والتكنولوجيا، التحليل إلى مؤسسة العلوم الوطنية في وقت سابق. وكتبت لوفغرين في رسالة إلى مدير مؤسسة العلوم الوطنية، سيثورمان بانتشاناثان: «من الضروري ألا تُرغم مؤسسة العلوم الوطنية على قبول هذه النتائج الفارغة وتقويض عملية مراجعة الجدارة لديها من خلال استبدال افتراءات تقرير كروز برأي الخبراء».
وجد التحليل أن معظم المنح قد أُشير إليها لاحتوائها على عبارات تشير إلى «التأثيرات الأوسع» للبحث على المجتمع، وهو شرط إلزامي أقره مجلس الشيوخ بالإجماع عام 2010، قبل أن يصبح كروز عضواً في المجلس، ثم أُقر مرة أخرى عام 2017 بعد أن أصبح عضواً فيه.
أشار تقرير كروز إلى منحة أنتوني جيتر، عالم الأحياء الحاسوبية في جامعة ويسكونسن-ماديسون، لاستخدام التعلم العميق في نمذجة البروتينات. وتضمنت المنحة جملة واحدة حول توفير فرص بحث صيفية للأقليات غير الممثلة تمثيلاً كافياً كجزء من بيان التأثير الأوسع. ويقول جيتر إن تقرير كروز «يدعم الرواية القائلة بأن الجامعات هي أماكن نخبوية تؤوي أكاديميين منعزلين عن الواقع، لم يعودوا يمارسون العلوم. لكنها منفصلة عن البيانات».

تعقيب مِن المُعرِّب

يمكن أن يأتي تقرير مجلة الطبيعة حول هذه التغييرات في سياسة تمويل البحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية التي تجريها إدارة ترامب، ضمن سياق صراع بين اتجاهَين رأسماليَّين: اتجاه لمزيد من التقشف في الإنفاق على البحث العلمي في الولايات المتحدة المأزومة اقتصادياً وجيوسياسياً، واتجاه آخر من خصوم ترامب العَولَميين ليس بالضرورة أنّه ليس «تقشفياً» عموماً أيضاً ولو بدرجة أقلّ ربما، ولكن يبدو أنّه يختلف بالأولويّات حيث يحاول أنصاره التركيز ليس على تقليص التمويل بحد ذاته، بقدر ما هي نوعية الأبحاث، مستخدماً ذرائع «أيديولوجية» تتعلق بأفكار العولمة الأمريكية الدارجة المتعلقة بسياسة ما يعرف بالـ«أقلَلَة» المرتبطة باتجاه تذرية المجتمع على أسس هويات ثانوية جندرية وعِرقية وغيرها، ولو بمظهر «الدفاع عن التنوّع» والاتجار بقضية «المِثلية» وتمثيل «الأقليات». وبكل الأحوال فإنّ الاتجاهَين يلتقيان في أنهما تعبيران عن أزمة مركّبة اقتصادية وعلمية وثقافية للمركز الإمبريالي نفسه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1223
آخر تعديل على الأحد, 20 نيسان/أبريل 2025 19:36