فقد السمع في غزة: نحو تشخيص سياسيّ تحرري
تحت هذا العنوان نشرت مجلة «العلم من أجل الناس» science for the people مقالاً للدكتورة الفلسطينية رجاء شرف من غزة، الأخصائية في السمع وتقويم النطق. نشر المقال بالإنكليزية بالأصل، وفيما يلي أبرز المعلومات التي وردت في المقال.
تعريب وتلخيص: د. أسامة دليقان
تستحيل دراسة وضع القطاع الطبي في غزة دون فهم آليات اضطهاد الكيان الصهيوني للفلسطينيين. أتطرق عبر مقالي هذا إلى برنامج تقويم النطق والسمع الذي كانت بدايته في غزة عام 1996. انطلق هذا البرنامج من تجربة قامت بها جامعة ماركيت بولاية ويسكونسن الأمريكية، حيث أرسلت الجامعة أساتذة واختصاصيين واختصاصيات في مجال النطق والسمع إلى غزة ليدرِّبوا مجموعة مختارة من الطلبة الفلسطينيين.
جاء عام 1996 بعد 3 سنوات من نهاية الانتفاضة الأولى، التي انطلقت عام 1987. كان جل المرضى الذين جاؤوا إلى عياداتنا آنذاك شباناً وشابات تعرّضوا لضرب وعنف من قبل جنود «إسرائيليين» خلال مظاهرات وتحقيقات في السجون «الإسرائيلية». وأدى الضرب المتكرر والصفعات المباشرة على العظم الحلمي إلى أضرار بالعصب السمعي يتعذّر علاجها. وأدت الصفعات على الرأس والأذن إلى ثقب طبلة الأذن وضرر في عظيمات الأذن الوسطى.
كان الضرب المبرح إحدى السياسات «الإسرائيلية» الرسمية لقمع الانتفاضة، حيث لقبها وزير [الحرب الصهيوني] آنذاك إسحاق رابين بسياسة «كسر العظام». فليس مستغرباً معاناة نسبة عالية من هؤلاء الفلسطينيين من الصمم.
أما المصابون بدرجة أدنى من الصمم، فاحتاجوا إلى سماعات طبية كان ثمنها في التسعينيات 300 دولار تقريباً، وهو مبلغ باهظ ليس بمتناول غالبية الفلسطينيين آنذاك (وفي وقت كتابة المقال، يتراوح ثمن السماعات الطبية في غزة بين 400 و1000 دولار أمريكي، ويختلف ثمنها حسب التكنولوجيا الموظفة في الأجهزة وجودتها). وفي التسعينيات، قلل الاحتلال تدريجياً اعتماده على اليد العاملة الفلسطينية نظراً لانخراط العمال الفلسطينيين في الانتفاضة والعمل النقابي، ما أدى إلى طرد آلاف عمال وعاملات فلسطين من الوظائف.
مساعدات ومراكز دمّرها الاحتلال
بعد ذلك تؤكد الدكتور رجاء شرف أنّ فقد السمع تفاقم في غزة بشكل ملموس منذ فرض الحصار الصهيوني عليها عام 2007. وأنّ توفير معينات السمع لا يكفي دون دعم من المحيط الاجتماعي. فقمنا بتنظيم زيارات منزلية لتعليم أهالي المتضررين والمتضررات لغة الإشارة وقدمنا نصائح للمساعدة في خلق بيئة عيش صحية. وتذكر الدكتورة شرف في وقت كتابتها للمقال الذي من الواضح أنه قبل حرب الإبادة الجماعية الحالية على غزة أنه «في وقتنا الحالي، يوجد في غزة مراكز ومدارس متخصصة للأطفال المتضررين، إضافة إلى أندية وبرامج جامعية»، لكن معظم هذه المراكز والمدارس قد دمرها الاحتلال في حربه الحالية على غزة (2023 - 2024).
وكانت الدكتورة شرف أشارت إلى أنّه في ظل ارتفاع عدد وكثافة قصف الاحتلال وعملياته العسكرية التي تعتمد على القصف الجوي والقنابل الصوتية التي تخترق حاجز الصوت، ازداد عدد الفلسطينيين من الجنسين الذي فقدوا السمع على المستوى الحسي والعصبي خلال العقد الأخير. حيث تتعرض المستقبلات الحسية للضوضاء العسكرية باستمرار، مما يؤدي إلى انحنائها وإتلافها.
انتقاد «الصمم» الإحصائي
من الملاحظات المهمة المتعلقة بالمنهج العلمي التي تذكرها الدكتورة شرف تأكيدها أنه «لا توجد إحصائيات تربط بشكل مباشر فقد السمع بعنف الاحتلال الصهيوني، وذلك لأنّ علم الإحصاء كثيراً ما لا يكون حساساً للعوامل التاريخية والتغيرات التراكمية». وتضرب مثالاً أنه إذا غابت جروح واضحة كتلك الناجمة عن شظايا قنابل أو غارات جوية، أو إذا لم ينتج الفقد السمعي مباشرة بعد غارة جوية، فعادة ما لا يتم اعتبار هذا الفقد نتيجة مباشرة للعنف «الإسرائيلي». وتتابع: أما بالنسبة لنا كأطباء، فيشكل تاريخ الحالة «case history» عاملاً حاسماً في فهمنا للأرقام المحضة والتشخيصات طبية، ولا غنى عن ذلك خصوصاً وأن العلاج يتطلب في معظم الأحيان علاجاً نفسياً يداً بيد مع المناهج العلاجية السمعية. كما أن الصورة الجغرافية لحالات فقد السمع الناجمة عن عنف الاحتلال الصهيوني تكشف مدى انتشار هذا العنف، بحسب الدكتورة شرف: «فطوال مساري الطبي صَعُب عليَّ حصر حالات فقد السمع في بقع جغرافية محددة. إن العنف (الإسرائيلي) يطغى على مجمل الخريطة».
برامج الأونروا ومشكلة الانتقائية
حتى برنامج الأونروا للفحوصات السمعية المبكرة للأطفال بالمدارس يبقى قاصراً وانتقائياً، بحسب الدكتورة شرف: «يبقى هذا البرنامج انتقائياً، حيث لا يحصل كثير من المتضررين على العلاج اللازم نظراً لعواقب مادية. فكثيراً ما تفتقد الأونروا والعديد من المنظمات الأخرى كمنظمة الإغاثة الإسلامية إلى التمويل الكافي لتغطية جميع الأفراد الذين يتم تحديد احتياجهم لسماعات طبية. ينجم عن ذلك عملية انتقائية مرهقة يتم من خلالها تحويل كل من وجد لديه فقد سمع إلينا لكي نجري عليهم فحصاً سمعياً مدققاً. بناء على هذا الفحص، نقوم بتحديد المرضى الأكثر حاجة إلى سماعات طبية من غيرهم استناداً لعوامل هامة كالعمر ومستوى الاكتساب اللغوي. في حالة اضطرارنا للحسم بين بالغ وطفل على سبيل المثال، فإننا غالباً ما نعطي أولوية توفير السماعة للطفل نظراً لأهمية السمع في الاكتساب المبكر للمهارات اللغوية والاجتماعية. مع ذلك، كثيراً ما يتلقى طفل يعاني من فقد جزئي سماعة طبية واحدة بدل اثنتين ضروريتين حتى يتمكن طفل آخر من الحصول على السماعة الثانية. هذه الاختيارات الصعبة تؤدي إلى الحد من قدرات الأطفال على تحقيق كفاءاتهم بشكل كامل».
إضافة إلى كل هذه المعرقلات فإن «إسرائيل» تفرض قيوداً صارمة على السماعات الطبية حيث يصلنا معظمها عبر معبر بيت حانون وهو حاجز عسكري كبير شمال غزة. في عيادتي، كثيراً ما نواجه تأخيرات تمتد لأشهر بسبب قيام الاحتلال بـ«فحوصات أمنية» لمعدّاتنا –بما فيها من قوالب سمعية وأجزاء للصيانة– هذه التأخيرات مضرة بالمرضى، وتلقي بهم إلى انتظار مفتوح وصراع يومي في قاعات دراسية وأماكن عمل مكتظة، حيث يؤدي التعرض المستمر إلى الضجيج دون توفر العلاج المناسب إلى التدهور السمعي والاضطراب النفسي والانعزال الاجتماعي.
حصار غزة والحرمان من الخبرات
تلفت الدكتورة شرف الانتباه إلى الضغط الجسيم الذي تعانيه مع زملائها: «في عياداتنا، نعمل عادة تحت ضغط جسيم. نجد أنفسنا عاجزين عن توفير سماعات طبية ضرورية لمرضانا نتيجة شح الأموال والمعدات. يتعذر علينا الحصول على فرص تعليمية وتدريبية جديدة. فلا يمكننا السفر لحضور مؤتمرات دولية ولا يمكننا الحصول على الكتب والمجلات العلمية، كما نفتقر إلى أحدث وأدق المختبرات والمعدات الطبية والسمعية. هذه الصعوبات تزداد تعقيداً نظراً لتبنينا العديد من الأدوار المهنية التي تتعدى مجال اختصاصنا الأدق، مثلاً عند مزاولتنا لجوانب من العلاج النفسي. ففي كثير من الأحيان، يتعرض الأطفال إلى صدمات نفسية ورعب شديد جراء غارات (إسرائيلية) أو اجتياح عسكري لحيهم، مما يؤدي إلى اضطرابات في النطق مثل التلعثم. يكمن العلاج الأمثل لهذه الحالات فيما يسمى بـ«العلاج الجماعي» ويتجلى في تعاون متين بين أخصائيّي علاج النطق، والأطباء النفسيين، على غرار تقويم السمع والنطق، ويمارَس العلاج النفسي وقطاعا التعليم والتربية في بيئة صعبة تفتقر فعلاً إلى الدعم مما يجعل التعاون بين هذه القطاعات المختلفة عملية صعبة وشبه مستحيلة. لهذا السبب، نجد أنفسنا في ميدان تقويم النطق مضطرين إلى أن نصبح أطباء نفسيين بقدراتنا المحدودة. كما نستغرق جلسات طويلة مع أمهات وآباء لمناقشة أفضل طرق دعم أطفالهم ومع الأطفال أنفسهم لتوفير الدعم النفسي لهم وفي الوقت نفسه مساعدتهم على تحقيق أهداف تقويم النطق».
المرض والسياسة
في نظرة أوسع من الطب البحت، تقول الدكتورة الغزّاوية رجاء شرف: «لا شك أننا نتعلم الكثير من هذه العراقيل. من أهم العبر التي نتعلمها هي أن فقد السمع ليس حالة مرضية لا سياسيّة منعزلة ينحصر علاجها في سماعات طبية ورخاء اقتصادي ودعم اجتماعي. يشكل فقد السمع والتدمير الشرس لنظامنا الصحّي جزءاً لا يتجزأ من القمع (الإسرائيلي) الممنهج للفلسطينيين والفلسطينيات. المصطلحات العلاجية الإنسانية مثل «التطور» و«التحسن» لا تنفع، كما أن المشاريع الإنسانية اللاسياسية لا تصلح على المدى البعيد. إنّ الطريق الوحيد لبناء منظومة فلسطينية صحية قوية وفعالة هو القضاء التام على المنظومة (الإسرائيلية) الاستعمارية وآلياتها القمعية. إنّ أي دراسة أو دعم لأي قطاع طبي في فلسطين يستوجب مواجهة هذه المنظومة بالذات».
نبذة عن الكاتبة
الدكتورة رجاء شرف من غزة، فلسطين، أخصائية سمع وتقويم نطق ولغة، تخرجت عام 1996 في جامعة ماركيت الأمريكية وتعمل منذ نحو 20 سنة في مجال السمعيات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1189