ليسنكو وفافيلوف وأشرسُ حَملة لتشويه تاريخ السوفييت بذريعة العِلم (1)

ليسنكو وفافيلوف وأشرسُ حَملة لتشويه تاريخ السوفييت بذريعة العِلم (1)

تتناول هذه السلسلة من المقالات إحدى أشهر وأكثر القضايا إشكاليةً في تاريخ العلوم في الاتحاد السوفييتي، بهدف البحث عن الحقيقة وراءها، وخاصةً أنّها تُستَغلُّ منذ عقود وحتى اليوم كـ«مَكسَرِ عصا» في المُحاجَّات ضدّ الماركسية والشيوعية، وفي سياق علاقة العلوم بالفلسفة والسياسة. ولذلك تحبّ الأدبيات الغربية والمعادية للشيوعية حتى اليوم تسميتها «فضيحة ليسنكو» و«الليسنكويّة»، نسبةً إلى عالِم البيولوجيا والزراعة السوفييتي تروفيم ليسنكو. فهل كان ليسنكو عالِماً زائفاً؟ وما علاقته بستالين؟ وهل كانت أبحاثُه مسؤولةً عن مجاعاتٍ قتَلتْ الملايين؟ وهل تسبّب في تخلُّف الوراثة والزراعة السوفييتية واضطهاد زملائه؟ وما حقيقة اعتقال وموت خصمِه العِلمي نيكولاي فافيلوف؟ تحاول السلسلة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، بما توفّر من وثائق ومعلومات. ولكن في البداية، مَن هما ليسنكو وفافيلوف؟

في البداية يمكن تلخيص الرواية الرائجة حول صراع ليسنكو وفافيلوف بشقها العلمي بأنها تصوّر جميع أفكار ليسنكو على أنها «علم كاذب» و«معادٍ لعلم الوراثة» وخاصة مبادئ الوراثة المندلية (نسبة للعالم غريغور مندل)، ويتم تصوير تأييد ليسنكو لفكرة «وراثة الصفات المكتسبة» التي تعود تقليدياً إلى لامارك، على أنها فرضية زائفة بالمطلق وغير علمية. وفي الشق السياسي، يتم تصوير فافيلوف المؤيد للمندلية بأنّه ضحية اضطهاد علمي وسياسي خلال الفترة الستالينية، وأنّ ذلك يعود بشكل رئيسي لحملات خبيثة بدافع الحسد والمصالح الشخصية كان يشنّها ليسنكو على فافيلوف. ويتم اتهام ستالين شخصياً بأنّه وراء تعزيز مكانة ليسنكو وأفكاره لفترة معينة، ومحاربة فافيلوف وأفكاره، وصولاً إلى اعتقال هذا الأخير وسجنه وقتله. ويتم تصوير أنّ «مجاعات حصدت أرواح الملايين» في عهد ستالين كان سببها تطبيق إرشادات ليسنكو الزراعية وتجاهل إرشادات فافيلوف. وأنّه حتى هتلر قدَّر قيمة فافيلوف العلمية بينما لم يقدّره «ستالين الغبي».
وسنعود لتفاصيل حول ذلك في حلقات لاحقة، ولكن لنبدأ بالتعريف بالعالمَين بحسب الموسوعة السوفييتة الكبرى (الإصدار الثالث 1969-1978).

ليسنكو في الموسوعة

ولد عام 1898، وتوفي عام 1976 لكن كان ما يزال على قيد الحياة عندما كُتبت هذه المعلومات عنه في الطبعة الثالثة من الموسوعة لأنها لا تذكر تاريخ وفاة.
وبحسب الطبعة المذكورة: تروفيم دينيسوفيتش ليسينكو هو عالم أحياء ومهندس زراعي سوفييتي (أوكرانيّ) ولد عام 1898، تخرّج في جامعة كييف الزراعية (1925)، عضو أكاديمية العلوم في أوكرانيا السوفييتية (منذ 1934) ثم أكاديمية العلوم لعموم الاتحاد السوفييتي (1939)، بطل العمل الاشتراكي (1945). تسلّم عدداً من المناصب الأكاديمية والإدارية في مجال الزراعة والبيولوجيا والوراثة وإكثار البقوليات، منها: كبير المتخصصين في قسم فيزيولوجيا الاصطفاء وعلم الوراثة لعموم الاتحاد (1934 – 1938)، ومدير معهد علم الوراثة بأكاديمية العلوم لعموم الاتحاد (1940 – 1965). منذ 1966، رئيس مختبر قاعدة البحوث التجريبية بأكاديمية العلوم السوفييتية (غوركي لينينسكي قرب موسكو). ابتكر ليسنكو «نظرية التطور المرحلي للنباتات»، وهي طريقة للتغيير الموجَّه للأصناف الشتوية الوراثية من محاصيل الحبوب إلى أصناف ربيعية وراثية وبالعكس. اقترح عدداً من التقنيات الزراعية مثل (التَّربيع) وزراعة البطاطا الصيفية. وتضيف الموسوعة: «عدد من النظريات والأحكام والمقترحات التي قدمها ليسنكو لم تلقَ تأكيداً تجريبياً أو إنتاجاً أو تطبيقاً واسع النطاق. حصل على أوسمة لينين وميداليات».

فافيلوف في الموسوعة

بحسب الطبعة نفسها من الموسوعة: ولد نيكولاي إيفانوفيتش فافيلوف في موسكو 13 (25) أيلول 1887، وتوفي في ساراتوف 26 كانون الثاني 1943. عالم وراثة سوفيتي، مربي نباتات، جغرافي، مبتكر الأسس العلمية الحديثة للاصطفاء [المقصود الاصطفاء الاصطناعي المرتبط بالداروينية - المعرِّب]، مؤسس عقيدة المراكز العالمية لمنشأ النباتات المزروعة، ومن أوائل المنظمين والقادة البيولوجيين والزراعيين في الاتحاد السوفييتي. عام 1911 تخرج في جامعة موسكو الزراعية (التي صارت تحمل اسم تيميريازيف). عام 1917 انتُخب أستاذاً في جامعة ساراتوف. منذ 1921 ترأس قسم علم النبات التطبيقي والاصطفاء (بتروغراد)، والذي أعيد تنظيمه عام 1924 ليصبح معهد عموم الاتحاد لعلم النبات التطبيقي والمحاصيل الجديدة. عضو أكاديمية العلوم السوفييتية (1929؛ عضو مناظر 1923). رئيس أكاديمية لينين للعلوم الزراعية 1929 إلى 1935 ثم نائب رئيسها من 1935 حتى 1940. وفي عام 1930 انضم إلى معهد عموم الاتحاد لزراعة النباتات وبقي رئيسه حتى آب 1940. منذ عام 1930 مدير المختبر الوراثي الذي تحول لاحقاً إلى معهد علم الوراثة التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية.
خلال 1926-1935 كان عضواً في اللجنة التنفيذية المركزية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، وخلال 1927-1929 كان عضواً في اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا. وحول منشئه الطبقي تضيف الموسوعة: «ولد في عائلة رجل أعمال».

بعثات فافيلوف العالمية

بحسب الموسوعة نفسها: استكشف فافيلوف الجنوب الشرقي والجزء الأوروبي من الاتحاد السوفييتي أعوام 1919 و1920. وفي كتابه «المحاصيل الحقلية للجنوب الشرقي» 1922 قدم ملخصاً لجميع النباتات المزروعة في منطقتي الفولغا وعبر الفولغا. من 1920 إلى 1940 قاد ونظّم العديد من البعثات لدراسة الموارد النباتية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط (اليونان، إيطاليا، البرتغال، إسبانيا، الجزائر، تونس، المغرب، مصر، فلسطين، سورية وشرق الأردن) وإثيوبيا وإيران وأفغانستان واليابان وغرب الصين وكوريا، ودول أمريكا الجنوبية.
أثبت الرحلة الاستكشافية إلى إثيوبيا (1926-1927) لفافيلوف أن مركز منشأ القمح القاسي يقع هناك. واكتشفت البعثات السوفييتية تحت قيادته أنواعاً جديدة من البطاطس البرية والمزروعة، اتخذت أساساً للاصطفاء العَملي. ونتيجة لدراسة الأصناف المجموعة أنشأ فافيلوف مراكز منشأ النباتات المزروعة، واكتشف أنماطاً في التوزيع الجغرافي للأنواع... ففي بعض المناطق تتركز النباتات ذات النضج المبكر، وفي مناطق أخرى أنواع مقاومة للجفاف، وما إلى ذلك. مما أتاح لأول مرة في الاتحاد السوفييتي (1923) إجراء عمليات زرع جغرافية تجريبية للنباتات المزروعة في مناطق مختلفة من البلاد لدراسة تقلباتها ومَنحها تقييماً تطوّرياً واصطفائياً. وهكذا، تم وضع الأساس لتنظيم اختبارات الدولة السوفييتية للمحاصيل الحقلية. بقيادة ومشاركة فافيلوف تم إنشاء مجموعة عالمية من النباتات المزروعة، مخزن يضم أكثر من 300 ألف عيّنة في «معهد فافيلوف لأبحاث الصناعة النباتية». والعديد من أصناف المنتجات الزراعية والمحاصيل الشائعة في السوفييتي هي نتيجة لأعمال التربية مع العينات المقابلة لها من عينات معهد فافيلوف المذكور.

رد الاعتبار لفافيلوف وتلميح إلى ليسنكو

الفترة التي حرّرت فيها الطبعة الثالثة من الموسوعة السوفييتية الكبرى (1969-1978) بدأت بعد أكثر من 15 عاماً على وفاة ستالين وخلال تنامي الحملة لتلطيخ كلّ شيء تقريباً في عهده من الاقتصاد والعلوم والسياسة والثقافة... وعلى ضوء ذلك يمكننا قراءة تلميحها غير المباشر إلى ليسنكو في المقطع التالي من التعريف بفافيلوف وبما يتوافق مع قرار القيادة السياسية آنذاك «ردّ الاعتبار» لفافيلوف بوصفه أحد ضحايا «القمع الستاليني»:
«كان فافيلوف منبراً حقيقياً للعلم. إن كفاحه ضد المفاهيم العلمية الزائفة في علم الأحياء ومن أجل تطوير علم الوراثة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية - الأساس النظري لإنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية - معروفٌ على نطاق واسع، مثل العلوم السوفيتية في العديد من المؤتمرات الدولية... كان فافيلوف عضواً فخرياً في العديد من الأكاديميات الأجنبية، بما في ذلك الأكاديمية الإنكليزية (الجمعية الملكية في لندن)، والهندية، والأرجنتينية، والاسكتلندية... تم انتخابه عضواً مناظراً وفخرياً في الجمعية النباتية الأمريكية، وجمعية لينيان في لندن، وجمعية البستنة في إنكلترا، وما إلى ذلك... توقف النشاط العلمي لفافيلوف في عام 1940. وفي عام 1965 سميت جائزة باسمه. وفي عام 1967، تم منح اسمه لمعهد أبحاث الصناعة النباتية السوفييتي. في عام 1968 تم إنشاء الميدالية الذهبية التي تحمل اسمه ومنحها للعمل العلمي المتميز والاكتشافات في مجال الزراعة».
وستتابع الحلقات القادمة من هذه السلسلة الإضاءة على وثائق ومعلومات تساعد في الإجابة على الأسئلة الأساسية المطروحة في المقدمة.

لقراءة الجزء الثاني من المقال (ليسنكو وفافيلوف (2) - هل دمَّرت أبحاث ليسنكو الزراعة السوفييتية؟)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1169
آخر تعديل على الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 12:27