من دمشق إلى كاليفورنيا... إنجلس يطوف في العشوائيات وبين المشرَّدين
فريدريك إنجلس فريدريك إنجلس

من دمشق إلى كاليفورنيا... إنجلس يطوف في العشوائيات وبين المشرَّدين

من يقرأ توثيق فريدريك إنجلس لـ«أحوال الطبقة العاملة في إنكلترا» عام 1845 ويقارنها بأحوال أغلبية الطبقة العاملة في يومنا هذا (من دمشق إلى كاليفورنيا كما سنرى)، يتأكد بوضوح كيف أثبت التاريخ صوابية الاستنتاج الماركسي بأنّ هذه المنظومة الرأسمالية الفاسدة محكومة بمراكمة المزيد من البؤس والفقر والمرض لدى أغلبية البشرية والمزيد من الثروة والتخمة والفساد لأقليتها، ومحكومة بالانفجارات التي لن تتحول إلى ثورات تغيير حقيقية تقدّمية دون وحدة ونضال ووعي وتنظيم هذه الطبقة المظلومة نفسها حتى أرقى أشكال تنظيمها الضروري (الحزب السياسي المعبر عن مصالحها). إنّ التشابه المدهش بين توصيف إنجلس (الذي سنقرأ بعضه هنا) لأحوال الطبقة العاملة قبل 177 عاماً (أواسط القرن التاسع عشر) وأحوالها اليوم في القرن الحادي والعشرين، هو بحد ذاته دليلُ إدانة يثبت تخلُّف هذا النظام الرأسمالي وإفلاسه وضرورة تغييره جذرياً.

تعريب وتعليق: د. أسامة دليقان

بعد أنْ وصف إنجلس في كتابه كثيراً من تفاصيل حياة ومعاناة الطبقة العاملة في إنكلترا، يكتب ضمن فصل «النتائج»:
مِن البدهي أنّ الطبقة التي تعيش تحت الظروف التي قدّمنا لمحةً عنها، والتي لا يتم تزويدها بوسائل العيش الأشدّ إلحاحاً سوى بأسوأ شكل، لا يمكن لها أن تكون سليمة الصحة ولا يمكن أن تعيش إلى عمرٍ متقدم. إنّ هذا لأمرٌ بدهي. دعونا نراجع الظروف مرة أخرى مع الإشارة بشكل خاص إلى صحّة العمال.
إنّ تمركز السكان في المدن الكبرى يمارس بحد ذاته تأثيراً سلبياً؛ لا يمكن أن يكون جوّ لندن نقياً وغنياً بالأكسجين كهواء الريف؛ مليونان ونصف مليون زوجٍ من الرئات، و250 ألف حريق، محتشدون على مساحة ثلاثة إلى أربعة أميال مربعة، يستهلكون كمية هائلة من الأكسجين، والتي يتم استبدالها بصعوبة، لأن طريقة بناء المدن بحد ذاتها تعيق التهوية.
إنّ غاز حمض الكربون [تسمية أخرى لغاز ثاني أوكسيد الكربون- المعرّب] الناجم عن التنفس والنار، يبقى في الشوارع بسبب جاذبيته النوعية، ويمر تيار الهواء الرئيسي فوق أسطح المدينة. وتفشل رئات السكان في الحصول على الإمداد المناسب من الأكسجين، والنتيجة هي التعب العقلي والجسدي وانخفاض الحيوية. لهذا السبب، فإن سكان المدن أقل تعرضاً بكثير للإصابات الحادة، وخاصة الالتهابية، مقارنةً بسكان الريف الذين يعيشون في جو طبيعي طَلق؛ ولكنهم بالمقابل يعانون أكثر من الإصابات المزمنة. وإذا كانت الحياة في المدن الكبيرة بحد ذاتها ضارة بالصحة، فكم سيكون كبيراً بلا شك التأثير الضار للأجواء غير الطبيعية في أحياء الناس العاملين، حيث يجتمع، كما رأينا، كلُّ شيء لتسميم الهواء.
في الريف، قد يكون من غير الضار نسبياً أن يحتفظ المرء بكومة من الرُّوث بجوار مسكنه، لأن الهواء يدخل بحرّية من جميع الجهات؛ أمّا في وسط مدينة كبيرة، بين الممرات والأزقّة متلاصقة الأبنية والتي تصدّ كل حركة في الجو، تكون الحالة مختلفة. فجميع المواد النباتية والحيوانية المتعفّنة تطلق غازاتٍ ضارّة بالصحة، وإذا لم يكن لهذه الغازات من سبيل حرّ للهروب، فإنها تسمّم الغلاف الجوي حتماً. لذلك فإن القذارة والأحواض الراكدة في أحياء العمّال في المدن الكبرى لها أسوأ تأثير على الصحة العامة، لأنها تُنتِج بالتحديد تلك الغازات المسبّبة للأمراض، وكذلك ما ينبعث من الجداول الملوثة.
ليس هذا فحسب، بل وإن الطريقة التي يعامل بها المجتمع اليوم الجمهور الكبير من الفقراء مثيرةٌ للاشمئزاز. يؤتى بهم إلى المدن الكبيرة حيث يتنفسون أجواءً أسوأ من أجواء الريف. ويتم إقصاؤهم إلى مناطق تكون، بسبب طريقة بنائها، أسوأ تهوية من أية مناطق أخرى. ويُحرَمون من جميع وسائل النظافة، ومن المياه نفسها، لأن تمديد الأنابيب لا يتم إلا عند الدفع لقاءها، والأنهار ملوثة كثيراً لدرجة أنها عديمة الفائدة لهذه الأغراض؛ إنهم مضطرّون أن يلقوا إلى الشارع بجميع المخلَّفات والقمامة، وكلّ المياه القذرة، وغالباً كلّ الصرف والفضلات المقرفة، دون وسائل أخرى للتخلص منها؛ مما يدفع بهم دفعاً لإصابة منطقة مساكنهم بالعدوى.
بل وأكثر من ذلك، فكلّ الشرور التي يمكن تصورها تنهال على رؤوس الفقراء. فإذا كان عدد سكان المدن الكبرى كثيفاً جداً بشكل عام، فإنهم هم على وجه الخصوص الذين يتم حشرهم حشراً في أقل مساحة. وكأن أجواء الشوارع الفاسدة لا تكفي، حتى يتم تكويمهم فوق بعضهم بعضاً بالعشرات داخل الغرفة الواحدة، بحيث يكون الهواء الذي يتنفسونه ليلاً كفيلاً بحد ذاته بخنقهم. يتم منحهم مساكن َرطبة، أوكارَ أقبية غير مقاومة للماء من الأسفل، أو ثكناتٍ تُسرِّب الماء من الأعلى. منازلهم مبنية بحيث لا يمكن للهواء الرطب أن يهرب. يتم تزويدهم بملابس رثّة أو ممزَّقة أو متعفّنة، وأطعمة مغشوشة وغير قابلة للهضم. يتعرضون لأكثر التغيرات إثارة للحالة العقلية، التذبذبات الأكثر عنفاً بين الأمل والخوف؛ يتم اصطيادهم كما لو أنهم ألعوبة، ولا يُسمح لهم براحة البال والاستمتاع الهادئ بالحياة.
إنهم محرومون من كلّ متعة باستثناء الانغماس في الجنس والسُّكْر، يعملون كل يوم إلى درجة الإنهاك التام لطاقاتهم العقلية والبدنية، وبالتالي يتم تحفيزهم باستمرار إلى أقصى الإفراط المَجنون في المتعتين الوحيدتَين اللتين تحت تصرّفهم. وإذا تغلبوا على كل هذا، فإنهم يقعون ضحايا الحاجة إلى العمل في ظلّ أزمة تأخذ منهم كلّ القليل الذي كان ممنوحاً لهم من قبل.
كيف يمكن، في ظل ظروفٍ كهذه، أن تكون الطبقة الدنيا بصحة جيدة وطويلة العمر؟ ما الذي يمكن توقعه أكثر من معدل وفيات مفرط، وسلسلة لا تنقطع من الأوبئة، والتدهور التدريجي في البنيان الجسدي للسكان العاملين؟

أحوال الطبقة العاملة من دمشق إلى كاليفورنيا

ماذا قدمت الرأسمالية المتعفنة في مدن اليوم؟ بعض الصور التي يمكن تأليف عدة كتب عنها مماثلة لكتاب إنجلس قبل 177 عاماً، نجدها في أحوال الطبقة العاملة في سورية القرن الحادي والعشرين، فعلى سبيل المثال لا الحصر في دمشق: «مياه مجرى نهر بردى يغلب عليها أن تكون مياه صرف صحي، عدا عن حجم القمامة المتراكمة على جانبي النهر، مما جعله مرتعاً للحشرات والقوارض، مع استمرار الروائح الكريهة المنبعثة منه على طول مجراه». وفي مثال آخر من أحد أرياف دمشق التي «تمدّنت» على الطريقة الرأسمالية العشوائية: «يشتكي أهل جرمانا من رائحة القمامة التي لم تعد محتملة ليلاً ونهاراً، خصوصاً أنها ترافقت مع موجة الحر الحالية، ناهيك عن الكم الهائل من الذباب والحشرات التي اجتذبتها القمامة المتخمّرة حرّاً لتلك الأحياء، وسط تراكم مهول لها... ومن الأسباب قلة أعداد حاويات القمامة!».
ويجمع تقرير حديث للموقع الاقتصادي الأمريكي «إيبيك إيكونوميست» epic economist نشر في 21 تموز الماضي 2022 مشاهدات جديرة بأن يكتب عنها إنجلس لو بُعِث من قبره كتاب «أحوال الطبقة العاملة في أمريكا»:
«أصبحت مدن الساحل الغربي الرئيسية في أمريكا آباراً متعفنة تغمرها الجرذان والمدمنون والجريمة وأكوام القمامة وجحافل المشردين. التدهور السريع لبعض أغنى المدن زاد معدلات الجريمة وفاقم مشكلات الصرف الصحي. الكثير من المتاعب تنتظرنا في جميع أنحاء الولايات المتحدة بينما نتجه نحو انكماش اقتصادي آخر. تم تحذيرنا من تدهور أكبر في الأشهر المقبلة وتشريد ملايين الأمريكيين قسراً إلى الشوارع... يزداد التشرد في جميع أنحاء الساحل الغربي للولايات المتحدة... تُظهر البيانات الرسمية منذ عام 2012 ازدياد أعداد المشردين في مدن مثل لوس أنجلوس وسياتل وسان فرانسيسكو وبورتلاند بنحو 75%، وكل عام يزداد الوضع سوءاً... في العديد من مناطق وسط مدينة لوس أنجلوس تُترك القمامة دون جمعها، ما يثير مخاوف الصحة العامة بعد تفشي التيفوس مؤخراً... مساحات شاسعة من لوس أنجلوس باتت أراضيَ قاحلة حيث تندفع الفئران بين أكوام القمامة المتحللة ومدن الخيام القذرة... منذ بداية 2022 رفعت حوالي 14000 شكوى رسمية بشأن براز بشري في شوارع سان فرانسيسكو. والبيانات العامة من موقع المدينة على الإنترنت ترصد زيادة بنسبة 311% في الشكاوى من النفايات البشرية والحيوانية على مدى السنوات الخمس الماضية». ويخلص التقرير إلى أنّ «العديد من الأمريكيين من الطبقة الوسطى سينتهي بهم الأمر إلى الانضمام لسكان الخيام... القلوب تزداد برودة في جميع أنحاء البلاد، والاضطرابات الاجتماعية تنتشر كالنار في الهشيم».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1082