داروين وعنق الزرافة- على ضوء اكتشاف حديث

داروين وعنق الزرافة- على ضوء اكتشاف حديث

تمكّن باحثون من معهد «الحفريات الفقارية وعلم الإنسان القديم» التابع لأكاديمية العلوم الصينية، من اكتشاف حفرية لكائن قديم من الزرافيات شمالي الصين، وبدراستها رجّحوا سبباً مختلفاً عمّا هو شائع كدافعٍ رئيسيّ وراء تطور العنق الطويل للزرافة. ونُشرت الدراسة في 2 يونيو/حزيران الجاري 2022 في دورية Science العلمية. فيما يلي نقدّم أبرز ما ورد في الدراسة، ولكن بعد أن نبتدئ باقتباس مهم من كلمات داروين عن تطوّر أعناق الزرافات كما أوردها في الطبعة السادسة من «أصل الأنواع» المنشور عام 1872، حيث سيتبيّن للقارئ أنّ داروين لم يقتصر في افتراضاته التفسيرية لتطوّر أعناق الزرافات على «الحاجة للتغذية من أوراق الأشجار العالية» كما يجري اختزال الأمر عادةً في بعض الكتب المدرسية. كما أنّ قراءة نصّ داروين الأصلي على ضوء الاكتشاف الجديد يضرب لنا مثلاً على كيف يؤدي اختزال تنوّع الفرضيات حول مسألة علمية غير محسومة إلى شيوع تفسيرٍ أحاديّ مبسّط.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

ماذا كتب داروين عن عنق الزرافة؟

على إحدى صفحات الفصل السابع من الطبعة السادسة لكتابه «أصل الأنواع»، 1872، وحيث خصّص هذا الفصل للرد على بعض معارضيه تحت عنوان «اعتراضات متنوعة على نظرية الاصطفاء الطبيعي»، كتب داروين عن مثال الزرافة، ما يلي:
«بما أن الزرافة موجودة بالفعل بأعداد كبيرة في إفريقيا، وباعتبارها من أكبر الظباء في العالم، حيث إنها أطول من الثور، وتكثر هناك، فلماذا يجب الشكّ بأنه قد وُجِدَت سابقاً تدرُّجات وسيطة في الحجم، والتي تعرَّضَتْ، كما هو الحال الآن، لندرة شديدة. من المؤكد أنّ قدرتها على الوصول، في كل مرحلة من مراحل الحجم المتزايد، إلى إمدادات غذاءٍ لا تصل إليها غيرها من ذوات الحوافر الرباعية الأخرى في البلاد، كانت ستعطي بعض الأفضلية للزرافة الناشئة حديثاً». حتى هذا الموضع، نجد أنّ داروين بدأ بالسبب المفتَرَض الشائع كدافع لتطوّر العنق الطويل للزرافة، ولكنه لا يتوقف هنا، حيث يتابع مباشرةً بعد ذلك: «كما يجب ألّا نتجاهل حقيقة أنّ الزيادة في الحجم ستكون بمثابة حماية ضد جميع الوحوش المفترسة تقريباً باستثناء الأسد؛ وضد هذا الحيوان، فإن الرقبة الطويلة للزرافة– وكلما كانت أطول كلما كان ذلك أفضل– كما لاحظ السيد تشونسي رايت، ستكون بمثابة برجِ مراقبة. ومن هذا المنطلق، كما يلاحظ السير س. بيكر، لا يوجد حيوان أصعب في ملاحقته كالزرافة». وهذا دافعٌ تطوّري ثانٍ لعنق الزرافة، مختلف عن مجرّد أن تطال الغذاء على أشجار الأكاسيا الباسقة، بل يعطيها عنقها أفضلية «برج المراقبة» للهروب المبكر من مفترسيها المحتملين. ليس هذا فحسب، بل يتابع داروين فيفتَرض سبباً ثالثاً لتطوّر عنق الزرافة- وسنرى بأنه قريب من السبب الذي رجّحت الدراسة الصينية الحديثة مؤخراً بأنه السبب الرئيسي- فيقول: «ويستخدم هذا الحيوان أيضاً رقبته الطويلة كوسيلة للهجوم أو الدفاع، عن طريق أرْجَحَةِ رأسه بعنف مسلَّحاً بقرون تشبه بقايا الغصن المقطوع».
وبعد عرض داروين لهذه الأسباب الثلاثة المفترضة كأفضليات للاصطفاء الطبيعي لصفة العنق الطويل، يكتب داروين مباشرةً التعميم التالي الذي يمكن اعتباره قانوناً: «إنّ بقاء كلّ نوعٍ من الأنواع نادراً ما يُحدَّدُ بوساطة أية أفضليّةٌ واحدةٍ فقط، بل يتحدّد بواسطة اتحاد جميع الأفضليات، الكبيرة والصغيرة». كما أنّ داروين كعالِمٍ عظيم لم يكن يزعم أبداً سهولة معرفة الأسباب ولم ينزع إلى تبسيط أو ابتذال الظواهر المعقّدة، حيث يكتب: «لماذا، في أماكن أخرى من العالم، لم تحصل الحيوانات المختلفة التي تنتمي إلى هذا النظام نفسه على رقبة طويلة أو خرطوم؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بوضوح، ولكن من غير المعقول أن نتوقّع إجابة مميزة لمثل هذا السؤال مثل سبب عدم وقوع حدث ما في تاريخ البشرية في بلد ما رغم أنه وقع في بلد آخر. نحن جاهلون فيما يتعلق بالظروف التي تحدد أعداد كل نوع ونطاقه، ولا يمكننا حتى التكهن بالتغيرات الهيكلية التي ستكون مواتية لزيادتها في بعض البلدان الجديدة. ومع ذلك، يمكننا أن نرى بشكل عام أنّ أسباباً مختلفة قد تتداخل مع تطور عنق طويل أو خرطوم... [...] ... مهما كانت الأسباب، يمكننا أن نرى أن بعض المناطق والأزمان كانت أكثر ملاءمة من غيرها لتطوير رباعيّ أرجلٍ مثل الزرافة». يكتب داروين أيضاً: «يعد الاصطفاء الطبيعي عمليةً بطيئة، ويجب أن تستمر الظروف المواتية ذاتها لفترة طويلة حتى يتم إنتاجُ أي تأثيرٍ ملحوظ».

ملخّص الدراسة الصينية الحديثة

مع زيادة ملاحظة سلوك الزرافة، بدأ بعض العلماء يدركون أنّ العنق الطويل الأنيق للزرافات والذي يراوح طوله من مترين إلى ثلاثة أمتار، يعمل في الواقع كسلاح في المنافسة بين الذكور للتودّد إلى الإناث من أجل التزاوج، عبر قذف جماجمها الثقيلة، المجهزة بالعظام الصغيرة والأورام العظمية، ضد الأجزاء الضعيفة من أجسام المنافسين. وكلما زاد طول العنق زاد الضرر الذي يلحق بالخصم.
وأجرى باحثو معهد «الحفريات الفقارية وعلم الإنسان القديم» في الصين دراستهم على نوع من الزرافيات الغريبة المبكرة أطلق عليها اسم (ديسكوكيريكس شيجي) Discokeryx xiezhi عُثِرَ على حفريّاتها في طبقات العصر الميوسيني المبكر (قبل حوالي 17 مليون سنة) على الضفة الشمالية لحوض جونغقار، شينجيانغ. وضمن المكتَشفات كانت هناك جمجمة كاملة وأربع فقرات رقبية لهذا الكائن الثديي، الذي كانت من خصائصه الفريدة تطوير مخروطٍ عظمي ossicone كبير يشبه القرص في منتصف رأسه، شبيه بما لدى المخلوق الأسطوري الصيني القديم «شيجي» xiezhi ولذلك أطلقوا اسمه على الحفرية المكتشفة بما معناه «شيجي حامل القرص».
واكتشفوا أنّ فقراته الرقبية قوية جداً ولديها أكثر المفاصل تعقيداً (سواء بين الرأس والرقبة، أو بين الفقرات الرقبية) لدى أي حيوان ثديي معروف على الإطلاق، وهي مفاصل تتكيف خصوصاً مع التصادم المباشر عالي السرعة، وأنها أكثر فاعلية بكثير من نظيرتها لدى حيوانات مثل «ثيران المسك» التي تكيّفت مع النطح بالرأس.
وقال وانغ شيكي، المؤلف الأول للدراسة: «تنتمي كل من الزرافات الحالية وDiscokeryx xiezhi إلى الزرافيّات Giraffoidea، وهي عائلة فائقة (حسب تصنيف الأحياء). على الرغم من اختلاف أشكال جمجمتها وعنقها اختلافاً كبيراً، إلا أن كلاهما مرتبطان بصراعات التودُّد الذكورية وكلاهما تطوَّر في اتجاه متطرف».
ووجد فريق البحث أن مورفولوجيا القرون في صراعات التودُّد (التزاوجية) أكثر كثافة وتنوعاً لدى الزرافات مقارنة بعدة مجموعات من المجترّات، بما فيها الماشية والأغنام والغزلان... وكانت بيئة سلف الزرافة المذكور في شينجيانغ أكثر جفافاً من غيرها لأن هضبة التبت جنوبه كانت عالية الارتفاع، مانعةً انتقال بخار الماء، وذلك في فترة من عمر الأرض تميزت بدفئها وكثافة غاباتها.
وقال مينغ جين، مساهم آخر بتأليف الدراسة: «أشارت نظائر مينا الأسنان المستقرة إلى أنّ Discokeryx xiezhi كان يعيش في الأراضي العشبية المفتوحة وربما يكون قد هاجر بشكل موسمي». وكانت بيئة الأراضي العشبية جرداء أكثر وأقل راحة من بيئة الغابة، ولذلك قد يكون السلوك القتالي العنيف للنوع المذكور مرتبطاً بالإجهاد الناجم عن البيئة والمرتبط بصراع البقاء. وفي بداية ظهور جنس الزرافة، وجدت بيئة مماثلة، فمنذ حوالي سبعة ملايين عام، تغيرت هضبة شرق إفريقيا أيضاً من بيئة حرجية إلى أرض عشبية مفتوحة، وكان على أسلاف الزرافات المباشرين التكيف مع التغييرات الجديدة. من الممكن أنه بين أسلاف الزرافة خلال تلك الفترة، قام الذكور من أجل التزاوج بتطوير طريقة لمهاجمة منافسيهم من خلال تأرجح أعناقهم ورؤوسهم، وأدى هذا الكفاح الشديد، المدعوم بالاصطفاء الجنسي، إلى استطالةٍ لعنق الزرافة على مدى مليوني سنة لتصبح الجنس الموجود الذي نعرفه حالياً.

المصادر: 1- ملخص الأكاديمية الصينية للعلوم للدراسة المنشورة في مجلة ساينس، 3 حزيران 2022 بعنوان «الاصطفاء الجنسي يعزز تطور رأس الزرافيّات والتكيف البيئي». 2- كتاب داروين، «أصل الأنواع»، ط6، 1872، الفصل7.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1074
آخر تعديل على الأحد, 12 حزيران/يونيو 2022 23:59