«العمل الذهني» والإبداع... نظرة على أبحاث ماركسية حديثة
آلان فريمان - تعريب وإعداد: د.أسامة دليقان آلان فريمان - تعريب وإعداد: د.أسامة دليقان

«العمل الذهني» والإبداع... نظرة على أبحاث ماركسية حديثة

تناقش المادة التالية الصناعات الإبداعية، التي تستخدم بشكل مكثف نوعاً معيّناً من العمل يعرّفه الكاتب بأنه العمل غير الميكانيكي (الذي لا يمكن اختزاله إلى تكرار إجراءات متطابقة ولا يمكن استبداله بآلة). وتنتج الصناعات الإبداعية «التميُّز» بوصفه الاستعمال المحدَّد لمخرجاتها. ويستفيد الإنتاج الإبداعي من «الأشياء العقلية» وهي تكوينات فكرية مثل القصائد والنظريات واللغات وبرامج الكمبيوتر.

الشيء العقلي المميِّز لعصرنا هو البرمجيات، المادة التصنيعية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي تدفع النمو الهائل للإنتاج الإبداعي. ويجب تبديد سوء الفهم منذ البداية؛ فأنا لا أعرّف الإبداع من خلال آثاره التجارية. فالإبداع ينتج الترفيه والبهجة والتعزيز الثقافي والتنوير، وهو في الواقع ميزة لـ«الكائن- النوع» للبشرية منذ لوحات الكهوف [الكائن- النوع: مصطلح شهير لجوهر الإنسان ابتكره ماركس في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفية عام 1844– ملاحظة المُعرِّب]. والجديد هو تسخيرها على نطاق واسع لإنتاج منتوجات قابلة للتسويق. وسواء أأعجَبنا هذا التسليع أم شجبناه، فإنه حقيقة، وإذا لم نتمكّن من شرح الحقيقة فليس لدينا علم.

الإبداع والمُلكية

لا بدّ لي من نقطة بداية ضرورية تتعلّق بـ«مؤسسة المُلكية»، فبعد عدة سنوات من الصمت حول القضايا التي تغطّيها أوراق بحثية سابقة روسية وصينية، وتحديداً النص المترجم الأخير لـ«تشينغ إنفو» عام 2019، وأعمال المدرسة «الماركسية ما بعد السوفييتية» (بوزغالين وكولغانوف وزملاؤهما، ولا سيّما بودرونوف 2019)، فإني وجدت هذه الأدبيّات لا غنى عنها، لأنّها تتناول «الفيل في الغرفة» بالمناقشات الغربية: مسألة المُلكية؛ من الذي يتلقى فوائد النشاط الإبداعي، وما المؤسسات القانونية التي تدعم أو تعرقل توليده ونشره على النحو الأمثل؟
تنتمي هذه الأعمال لأدبيّات التنمية، وتتناقض مفاهيمها عن الاقتصاد والنشاط الإبداعي مع كثير من الأدبيّات الغربية التي تتعامل معه كنوعٍ من «عَرَض جانبي» يلعب دور عازف الكمان الثاني في أوركسترا «الأولويات»، مما يفوّت النقطة المهمة: الاقتصاد الإبداعي هو البنية التحتية المستقبلية لأيّ مجتمع يأمل الحفاظ على مواطنين يتمتعون بالصحة والتعليم وحسن التجهيز.
يقدم بوزغالين مفهوماً يسمّيه «المجال الإبداعي» (كرياتوسفير Creatosphere) تنشَأ فيه الظواهر الثقافية والإبداعية لاحتياجات غير نفعية ولتطوير الصفات الشخصية للإنسان.
إنّ المكان والزمان الاجتماعي لخلق وتوزيع هذه الفوائد هو مجال الخلق المشترك لجعل النشاط الإبداعي في متناول الجميع. نطاقاتها الفرعية الرئيسة معروفة جيداً: التعليم بما فيه التربية والتنشئة طوال الحياة، والعِلم بكل تنوعه، والإبداع الهندسي والتقني بما فيه الاختراع، والفن بما فيه شبكة المؤسسات الثقافية، والتواصل بين الأشخاص، والرعاية الصحية والرياضة العامة وجميع مؤسسات أسلوب الحياة الصحي، والأنشطة البيئية، واستجمام المجتمع (تنظيفه من «الأوساخ الاجتماعية» بإنشاء «مصاعد اجتماعية» ودعم التنظيم الذاتي)، وما إلى ذلك.
يتعامل الباحث الصيني تشينغ وآخرون مع العمل عالي القيمة، الإبداعي والعلمي، على أنه المفتاح لمستقبل المجتمع الصيني: فتطوير اقتصاد السوق الاشتراكي الصيني يحتاج أيضاً إلى توجيه نظريّ مناسب. ومع ذلك، تأخّر البحث في النظرية الاقتصادية الاشتراكية كثيراً عن الممارسة، نظراً لأن مساهمة هؤلاء العمّال الذين لا يديرون عملية الإنتاج بشكل مباشر آخذة بالازدياد، فيتعيّن علينا إيجاد طريقة فعّالة لتوليد الحماس بين العاملين في الصحة العقلية، وفي إثراء الحياة الروحية للناس، أو تقديم الخدمات للمجتمع والعاملين في العلوم والتكنولوجيا والإدارة. هؤلاء العمال محرّك النمو الاقتصادي في الصين، فعلى جميع المعنيين تعميق فهمهم للعمل ونظرية قيمة العمل. ونظراً لأهمية التجربة الصينية بالنسبة لنظرية وممارسة التنمية ككل، فإنّ نتائج البحث لها آثار عملية لمجتمعات أخرى في مراحل مختلفة من التطور.
ويحتوي عالَم الإبداع لدى بوزغالين وكولغانوف على جميع هذه الأنشطة، جنباً إلى جنب مع حماية البيئة والأنشطة التي يصفها كثيرون بأنها «أعمال منزلية». بالنسبة لهما تتعارض الإمكانات الاجتماعية للمنتَجات الإبداعية مع ملكيّتها الخاصة، ويجب التغلُّب على هذا التناقض.
وكماركسيين فإنّ الإطار الفكري المشترك يتجاوز جعل الإنتاج الخاص أكثر كفاءة، ليتطرّق إلى كيفية تجاوز الحدود التي يفرضِها.

خصوصية «القيمة الاستعمالية» للناتج الإبداعي

كتب بوزغالين عام 2017: باستخدام التمييز الماركسي بين تبعية العمل الشكلية والحقيقية لرأس المال، يمكن أنْ يطلق على الفوائد الإبداعية حقاً المنافع العامة... يمكن (استهلاك) موسيقى تشايكوفسكي وقانون أوم [للمقاومة الكهربائية] بواسطة دائرة من الأشخاص غير المحدودين في المكان والزمان. وينطبق هذا على أية فائدة تنتمي لمجال الإبداع. وإذا كان الوصول إليها مُقيَّداً، فهذا ليس إلّا بسبب الشكل الاقتصادي والقانوني (براءة الاختراع، وما إلى ذلك) أيْ إنه شكليٌّ تماماً بطبيعته. الفوائد الإبداعية عالمية المحتوى وعامّة دائماً. الشكل الاجتماعي- الاقتصادي يكون مناسباً لهذا المحتوى إذا أدخلنا نظام (ملكية الكل من قبل الجميع) ويتعارض معه إذا كان شكل (الملكية الفكرية الخاصة) مفروضاً عليه لمنفعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية.
يمكن أداء تشايكوفسكي في تومسك، وبثّه في سياتل، وتنزيله في دبلن. فإذا قارنت هذا بوجبة طعام، لا يمكن لعدد غير محدود من الأشخاص أن يأكلوا من الطبق الواحد نفسه. ومع ذلك، تظهر الصعوبات نفسها بمجرد استجواب ما الذي يَحدُّ فعلياً من توفّر هذه المنتوجات؟ يستغرق إلقاء قصيدة أو أداء مقطوعة موسيقية أو تطبيق المعرفة العلمية أو تعليم الطفل وقتاً وتكريس جزء من حياة الشخص لنشاط واحد على حساب آخر، ويجب أن تحصل على الوسائل المادية للقيام بذلك، ليس فقط الأكل والنوم والدفء، بل والتعليم والوسائل اللازمة لتنمية الموهبة. وبالتالي طالما بقي المنتوج بضاعة كأية بضاعة أخرى، يظل محكوماً بوقت العمل المطلوب لإتاحته للاستهلاك البشري. المجتمع الذي يغذّي فنّانيه سيولّد الفن، أما المجتمع الذي يغذّي المضاربين الماليين فسيولّد الانهيارات.

الإرث الثقافي كـ«وسيلة إنتاج» إبداعية

العمّال المبدعون لا يعملون في فراغ ثقافي، بل يبنون على ميراث سابق وعملِ ألف جيل. وهذا يشكل «وسيلة إنتاج» المنتوجات الإبداعية والثقافية. إنها ذات سمة خاصة: لا تنضب باستعمالها؛ الأغاني أكثر من مجرّد ذكريات، إذ يمكن غناؤها مرةً أخرى. عند قراءة كتاب عن قانون أوم، فإنه يبقى بعناد على رفّ المكتبة. ومع ذلك، لا يمكن للكتاب الوقوف على سلّم وتبديل المصباح الكهربائي، فهذا يتطلب عامِلاً يقوم بتبديل المصابيح. ولا يمكن لأي من المقطوعات الموسيقية الوقوف على المنصة وتقديم أداء حي، فهذا يتطلب عازفاً.

عبودية «حقوق الملكية الفكرية»

يرتكز مفهوم الملكية الخاصة على استبعاد الممتلكات [بمعنى تغريبها]؛ العديد من الرسوم الكاريكاتورية عن الاشتراكية تتّهمها بالقضاء على الممتلكات الشخصية مثل فرشاة الأسنان أو، كما يشير البيان الشيوعي بسخرية، الزوجات! معظم المؤسسات القانونية للملكية الخاصة تفرض على الأشياء غير المادية صفاتٍ مصطنعة للحصريّة مشتقةً من خصائص الأشياء المادية. تمنح «الملكية الفكرية» لشخصٍ اعتباري حقوقاً خاصة حصرية لتدفُّق دخلٍ مع أن إنشاءه يتم بشكل عام. الرأسمالية وعلاقة الأجر تنص ببساطة على أنه يمكن لصاحب العمل فعل ما يشاء مع ما ينتُجه الموظَّف. الملكية الفكرية، مثلها مثل القنانة والعبودية، مجموعةٌ من التدابير لفرض هذا «الحقّ» على الأشياء التي تميل بطبيعتها إلى الهروب منه.
ما الجديد في المرحلة الحالية من التطور؟ إنه التسويق واسع النطاق للمنتوجات غير المادية. هذا ما يتطلب الدراسة... إنها ما زالت نوعاً آخر من البضاعة، ولكن من المؤكد أنها قد تصبح شيئاً آخر، كما ظهرت أشكال ملكية جديدة تماماً، كالرأسمالية من الإقطاعية، يمكن رؤية بوادر هذا بالفعل في أشياء مثل الإنتاج مفتوح المصدر open source. ومع ذلك، يجب ألّا نتوقع تغييراً عاماً إلا عندما يصل هذا التطور الكمي إلى نقطة انتقالية: عندما يؤدّي الصراع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إلى تغيير ثوري.

  • المصدر: تلخيص بتصرّف من دراسة للباحث في جامعة مانيتوبا الكندية، آلان فريمان، بعنوان «العمل الإبداعي والأشياء العقلية والنظرية الحديثة للإنتاج»، نشرت في مجلة «العلم والمجتمع»، المجلد 48، العدد 4، تشرين الأول 2020، ص458-484.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1062