التضحية بين الصدمة والعجز!
يقول سليغمان (أحد رواد علم النفس الإيجابي) أن العجز المُكَتَسب له تأثير على نظرة الأفراد تجاه الحياة. فالعجز المكتسب هو عندما نتعلم أنه لا يمكننا تغيير شيء مما يحدث حولنا، وأنه مهما فعلنا أو مهما كانت ردة فعلنا حول ما يحدث ستكون النتيجة واحدة وثابتة. وهذا التعلم إنما يكون عبر التجربة، أو عبر آلية التفكير التي تعلمناها خلال تقدمنا في العمر، وطبعاً مدعومة بالثقافة السائدة التي روّجت لثبات الواقع. والعجز المكتسب غالباً ما يكون عند الشعوب المقهورة كما يسميها مصطفى حجازي، التي تعودت بحكم الاستعمار والاحتلال أنها لا يمكن أن تُحدث تغيّراً بالأحداث، أو عند الشعوب التي تعتبر أن مصيرها مقدَّرُ، فلا يوجد سبب لتغييره، أو الشعوب التي تعتبر أن تغيير أي حدث مرتبط بضرورته الفردية، وهو عمل فردي، لذا فإن التغيير لا يأتي جماعياً ولا يمسّ إلاّ العناصر الفردية اليومية المباشرة للفرد المتضرر، وهذا ما يبطل تغيير المنظومة.
وفي مرحلة الكورونا فإن العالم أجمع يمارس العجز المكتسب. فالبعض لا يزال إلى اليوم يرفض فكرة الفيروس، ويتعامل معه كأنه قدر. والبعض الآخر غارق في معاناته الفردية، فلقد ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالامتعاض من الحجر المنزلي، الشيء الذي لم نره طوال الفترة التي ما زالت مستمرة بدرجة أقل من الحجر المنزلي في الصين.
كيف نكتسب العجز؟
يحتاج الأطفال إلى مثال أعلى ليتعلموا من خلاله كيفية التصرف في الحياة، لأنهم في الفترة الأولى من حياتهم يكون تعلم الأخلاقيات وكيفية التصرف والتعاطي مع أمور الحياة من خلال التماثل غالباً. وهذا المثال الأعلى غالباً ما يكون الأهل أو المربي، وهذا جزء من المحبة المطلقة الذي يكنّها الأطفال لذويهم. فبالتماثل يتأثر الأطفال أكثر من غيرهم بالشخصيات التي تمتلك إمكانات أكبر من إمكاناتهم البسيطة. ولأن كل شيء جديد بالنسبة لهم، فإن أية معلومة جديدة تأخذ حيز اهتمام عالٍ. ولأن محيط الطفل صغير جداً مقارنة مع المحيط الفعلي، ولأن معرفته مرتبطة أيضاً بالنظام التعليمي، فإن بعض المهن أو الشخصيات تأخذ تأثيراً أكبر، مثل: القوى العسكرية أو الدفاع المدني أو القطاع الطبي أو التعليمي. وهذا ما يجعل الأطفال متعلقين بالأبطال الخارقين، لأنهم قادرون على لعب أدوار كثيرة ومتعاظمة بالنسبة لطفل. ولكن هذه الفترة يجب أن تنتهي مع الانتقال إلى مرحلة النضج، لأنه عندها يعي الإنسان أن لكلّ منّا دوره في المجتمع وهذا الدور يُحدد قدرته وإمكاناته، فتسقط التعاريف السابقة ويُنشىء تعريفاً جديداً. ومن لا ينتقل إلى هذه المرحلة يكون: إما تعلم أنه لا يمكن له أن يحدث تغييراً في الأحداث، أي تعلّم العجز، أو يعتبر أنه غير معني بأي تغيير طالما أن هذا التغيير خارج عن نطاق مهامه وقدرته، وهذا أيضاً هو العجز المكتسب. وهاتان الحالتان تأتيان من خلال ما تعلّمه الفرد من تجاربه أو خلال مراحل نموّه. فإما أن يتعلم هذا من خلال الظروف الاجتماعية والسياسية، مثل: حالة الخضوع لسلطة أعلى.
المنافسة والتسابق والأنانية
وقد تكون هذه السلطة هي الأهل وليس السلطة السياسية المباشرة ولكنها تنعكس على ذلك، وبالطبع فإن الأسس التربوية لأي كان هي نتيجة التركيبة الاجتماعية الثقافية السياسية الموجودة. أو إما لأن معظم الأفراد يتربّون على الفردية والأنانية أيضاً لأن التركيبة الاجتماعية والنظام السياسي الليبرالي المسيطر، في جوهره الرأسمالي، يقوم على المنافسة والتسابق والأنانية، أو عبر الخضوع للسلطة السياسية المباشرة، فعندما يدرك الفرد أن رأيه أو موقفه مقموع ليس هناك داعٍ لإبدائه. وتكون هذه السلبية أيضاً نتيجة أن السلطة السياسية قد حوَّلت الحياة الاجتماعية إلى حياة فردية، فتعلم الأفراد أن عملهم غير مرتبط بعمل الآخرين، حيث إن تقدمهم وفشلهم أيضاً غير مرتبط بالآخرين. وهذا جزء من الحضور الكبير للمظاهر الفردية والانتهازية السياسية الموجودة في فترة الفيروس الحالية. فالحديث المستمر عن تضحيات القطاع الطبي أو القطاع الأمني يدل على أن من يعظِّم في دور هذه القطاعات لا يعتبر أن حل الأزمات هو بيدها، أي من مسؤوليتها الموضوعية. بل يعتبر أنه من الغريب (ولهذا يأتي التعظيم) إن هذه القطاعات تقوم بدورها في هذه المرحلة. ويدلّ أيضاً على أن هذا التصرف «الغريب» يعتبر أن قطاعات الحياة اليومية مفصولة عن بعضها البعض.
فشل النظام السياسي المسيطر
لا أحد يُنكر أنه في هذه اللحظة من فشل النظام السياسي المسيطر عالمياً على جميع الأصعد، كالتعليم والأخلاق والإنتاج والحلول الاقتصادية، فإن الكثيرين أخذوا حلّ الازمة على عاتقهم. ولكن جزءاً من هذا العاتق هو أمر مفروغٌ منه، كَون الجميع في هذه اللحظة مسؤولين عن التصدي للفيروس وإيجاد الحل، والجميع مسؤولون عن تحمل مسؤولية المرحلة. ولكن الاستغلال المتعاظم للبعض في هذه الفترة يدلّ على أنهم كانوا ضيّقي النظر وغير معترفين بقيمتهم في صراع الحياة. وهذا جزء من خسارة القيمة التي سلبتها الرأسمالية من الشعوب. فقد عوَّدتهم أنّهم غير قادرين على صنع تغيير كبير، إما من خلال التجهيل العام، أو من خلال اضمحلال الأخلاقيات في العلاقات الاجتماعية من خلال التنافس والتسابق، ولهذا يأتي نموذج التضحية صادماً للكثيرين. ولكن ما بعد السقوط غير ما قبله. وما بعد الصدمة التي تعيشها أغلبية البشر سيكون إما وعي بما يجب تغييره، وأن هذا التغيير لا يمكن أن يكون فردياً، أو الغرق في عدمية أكبر من التي نعيش.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 961