تناقضات المرحلة أجمل ما فيها
أفضل ما في أية مرحلة- مهما كانت صعوبتها النابعة من تناقضاتها- الخلاصة التي تسمح لنا بالخروج منها حاملين أملاً ما. العالم حالياً في فوضى وخوف كبير من عزل الدول والأفراد عن بعضهم ومن تفككٍ للحياة اليومية التي اعتدنا عليها. فوضى نتيجة أننا تعودنا على نمطٍ معيّن، ولأن الكوكب بأكمله وُضِع مباشرة أمام عدم القدرة على السيطرة على الحاضر أو المستقبل. تفكك الوهم التي وضعته الرأسمالية بالقدرة على السيطرة أو على معرفة ما يمكن أن يحصل اليوم أو غداً. وتفكك الوهم الذي أبعد الغرب عن الموت المباشر. ولكن هذا لا يمنع أن الشعور بعدم اليقين طغى على العالم.
إننا نشعر بما نشعر به من خوف وعدم يقين من المستقبل، أولاً بسبب غريزة البقاء والخوف الذي يأتي من هذه الغريزة من خسارة الحياة أو الموت. وهذه الخسارة لا تمثل فقط الموت المباشر، بل أيضاً الموت في أشكاله العديدة، في خسارة الحياة كما نعرفها، في خسارة وجودنا كأفراد ضمن مجموعة، وبالتالي في خسارة حياتنا اليومية. البشر في صراعهم نحو الحياة يحملون الخوف في جميع أفعالهم، وقد جعلوا من الخوف محركاً لهذه الأفعال. وهذا الخوف وعدم اليقين ينتج شعوراً آخر بفقدان الأمل، فمحاولات الاستهزاء أو عدم تحمّل مسؤولية في هذا الوضع تنفذ بعد مدة، ولكون الأحداث تتسارع بشكل كبير فهذه المدة قصيرة جداً. وبما أن النظام الرأسمالي ربط قيمة الأفراد بإنجازاتهم الفردية، ولأن اليوم في الوضع الحالي من العزل وعدم اليقين لا يسمح بأي إنجاز فردي، فإن هذه القيمة تلاشت وسقطت معها إمكانية العمل الفردي للوصول إلى الأهداف. وهذا ما جعل الأفراد غارقين في تفاصيل حياتهم اليومية التي أصبحت قيمة بالنسبة لهم مهما مثّلت في هرمية الإنتاج. وجعل هذا التسابق الفردي الأفراد غارقين في حياتهم اليومية المتسارعة والتي أعمتهم بتسارعها وتسابق أحداثها، وخلقت وهم الإنتاج والوجود. فاليوم مع فقدان هذه التفاصيل اليومية وُضِع البشر أمام استحقاق الحياة وقيمتها. فالوضع اليوم أعطى الأفراد فرصة لرؤية واقعهم كما هو، وفسحة للتفكير بهذا الواقع. وحتى لو أن الوضع مختلف بين البلدان التي أساساً تعاني من وضع معيشي وأمني صعب، وبين البلدان التي تعيش في استقرار نسبي (مثل الغرب)، إلا أن الجميع يعاني من صراعه نحو الحياة بطريقته.
أثبت انتشار الكورونا أن النظام الرأسمالي فشل في حماية الكوكب من خطر كهذا. فالعالم اليوم يعاني من نقص حاد في المعدات الطبية والبنى التحتية اللازمة لمكافحة هكذا فيروس. والذي لن يكون الأخير مع تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري. وأثبت أن النظام الرأسمالي جعل من البشر مشوشين ومضللين في أبسط أمور الحياة، فالضياع في تحديد خطورة الفيروس والتعاطي المستهزئ مع الموضوع، وكثرة الإشاعات حوله تعني أن أغلبية البشر لا تعلم ما هو الفيروس وكيف يعمل.
كيف نصارع الكورونا؟
ليس من السهل أن تنقلب الحياة رأساً على عقب في غضون أسابيع. وليس من السهل أن يرافق ذلك خطرٌ على حياتنا وعلى واقعنا كما هو. ولكن كل مشكلة تحمل صراعها معها وفيها. وتحمل تقدماً ما على الصعيد الفكري أو العملي. وأعلم جيداً أن أي من الاقتراحات التي قد تملأ فراغ اليوم في ظل العزل الذي نعيشه بسبب انتشار الفيروس لن تكون مجدية إذا لم تكن منتجة، وأن بعضها غير ممكن عملياً إما بسبب التركيبة الاجتماعية أو بسبب الغرق اليومي في التفاصيل التي أبعدت الأفراد عن الإنتاج والإبداع والدّور. ولكن في هذه الفترة علينا ألاّ ننسى أن هناك غداً، وخلاصة هذه الفترة سندفع ثمنها عندما تنتهي. الثمن الذي يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً. وقبل هذا علينا أن نسقط وهم القوة الذي أنتجناه على مدى عقود، تعودنا أننا أقوى من الطبيعة وأقوى من تطورها وحركتها. الإنسان أضعف الكائنات الحية الذي حتى لو استطاع التأقلم مع محيطه، إلاّ أنه حمل مع هذا التأقلم العديد من الاضطرابات وإمكانات دماره كإنسان. إذا بدأنا من هذا نعلم أنه في أية فترة كانت نحن معرضون للفناء وأننا في كل فترة نصارع نحو الحياة، وهذا الصراع كان وما يزال صراعاً نحو التقدم والإنتاج. لذا تحمل هذه الفترة القدرة على النضوج الشخصي والفكري، والقدرة على إنتاج أي جديد، لأننا الآن نملك الوقت المأزوم والفراغ أكثر من أي وقت مضى. وفي هذا الوقت يجب أن نستعيد قيمتنا وقدرتنا على التقدم. فجميع ما يحصل اليوم، من إثبات أن النظام الرأسمالي غير قادر على حماية البشرية، إلى الخوف من الموت الذي جعل العديد يفقد قدرته على التفكير وإنسانيته، إلى فقدان الأمل، والحافز هو إثبات أن ما كنا نقوم به خاطئ ويجب تغييره. وهذا التغيير يبدأ بالمعرفة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 958