جدلية الذاتي والجماعي
مروى صعب مروى صعب

جدلية الذاتي والجماعي

يركِّز علم النفس هذه الأيام على علم النفس الإيجابي، في النظرة إلى النفس والأفراد وتفاعلهم مع محيطهم. ينشأ علم النفس الإيجابي بشكل عام عن الحجة القائلة إن تغييب النظرة الروحانية الدينية فشل في معالجة فهم البشر، ولم يستطع تفسير غاية هذا الوجود. أما الحجة الأخرى فتقول: إن العلماء تعاملوا بغطرسة وببعد في أبحاثهم عن احتياجات الناس والحياة اليومية التي لم تمكنهم من رؤية الحاجات الحقيقية للناس، وما الذي يؤمن لهم وجودهم المتمثل في هذه اليوميات. بينما كان للدِّين أو الإيمان بقوة ماورائية (ربطاً بالحجة الأولى) هو أحد العوامل التي تعزِّز أو تخلق معنى وغاية الوجود عند البشر. وعبر هذا الإعلان يظهر وكأن العلم يريد أن يعود إلى الوراء بسبب فشله في عدم تمكنه من حل المشاكل، أو الاضطرابات الاجتماعية والنفسية عند البشر، عبر اللجوء إلى الماورائيات وحتى إلى السحر والشعوذة.

الليبرالية ترى الجماعي «فردانياً»

في ظروف الأزمات يشكّل التعالي عن الحاجات الذاتية- الضيقة والتوجه نحو مساعدة الغير عبر التركيز على الحاجات الجماعية، هي إحدى الآليات الدفاعية التي يستعملها العقل في حمايته لنفسه وللجسد. ويكون هذا التعالي ردة فعل على الصدمة التي واجهت الإنسان، ولا يستطيع العقل تحملها، فيحاول فهمها أو تبريرها بطريقة أخرى لكي يخفف الضغط الناتج عنها، وذلك عبر تحويلها إلى أزمة عامة. وهذا التعالي غير الواعي في أغلبه يُؤسَّسُ على حاجة وضرورة ذاتية عند البشر. مثلاً من فقد أحداً ما في حادث سير يركّز لاحقاً على التوعية من حوادث السير، وفي حالات أكثر تعقيداً: من فقد أحداً ما في الحرب يركّز على الدعوة إلى وقف الحرب أو العمل على إيجاد حلّ لها. بمعنى أن الحاجات العامة تستند على الحاجات الخاصة. وهذا الفرق بين معنى الذاتي (الفردي) وبين العام في النظام الليبرالي يستند إلى رؤية أن الذاتي حتى لو أصبح عاماً فهو لا يبتعد عن منطقه الذاتي- الأناني. ومن هنا أيضاً ينبع عدم الاكتراث الليبرالي بما قد تصل إليه الأمور أو بعد تحقيق الحاجة، فيأتي العنف المراهق مثلاً كإحدى الوسائل للتعبير من دون الأخذ بعين الاعتبار أن لهذا العنف عقبات قد يضطر من قام بالعنف على تحملها مع غيره، أو أنه يُحمّل غيره هذه العقبات.
وبما أنَّ الأساليب الدفاعية ناتجة عن بنية الوعي والشخصية، لذا هي تتدرج بالمستويات بحسب الوعي، وللبيئة الموجودة القدرة على تأسيس الآليات الدفاعية وتحويلها إلى آليات أعقد. وإذا أخذنا انعكاس السياسة على الوعي، نرى أنَّ الوعي الذاتي (الليبرالي- الفرداني) يغلب على الوعي الجماعي في أغلب البلدان، والاختلاف هو في نسبة الليبرالية الموجودة، وفي مدى تأثيرها على الأشخاص في كل بلد على حدة. وهذه إحدى العوامل التي أسست لعلم النفس الإيجابي، كون هذه الحاجات قد ظهرت في المجتمع مع النظام الليبرالي على أنها فردانية (أنانية). وتحويلها إلى عامة جماعية فشِل، لكون تعريف الحاجات بذاتية في ظل الليبرالية ينفصل عن العام الجماعي، ما يؤسس للأنانية التي تُبقي الفرداني فردانياً حتى عندما يتحول إلى عام. ومن هنا تبرير علم النفس الإيجابي بأن الماورائيات مثلاً هي مصدر من مصادر الوعي الوجودي عند البشر، لأنه يفتت النفس البشرية ويعزلها عن محيطها (الجماعي)، ولا يمكنه إلّا أن يرى القشور والجانب السطحي في ردّات الفعل عند البشر. فيلغي إمكان العمق الاجتماعي المغزى الوجودي فيها.

الصدمة من وجود وعي جماعي!

مثلاً كانت هناك ردة فعل طاغية حول ما حدث من احتجاجات في العديد من البلدان في العالم تتمثل بالصدمة، أو اعتبرت الاحتجاجات كشيء مباغت غير محسوب، والتبرير «الفرداني» كان بأنَّ الناس قد كسرت حاجز التبعية بكونها وعت (كفعل غير تاريخي)، «وأخيراً»، حاجتها إلى الرفض أو التغيير. الصدمة هذه هي عدم القدرة على قراءة واقع البشر وما الذي يحرّكهم من حاجات مادية ومعنوية وما الذي يطمحون إليه، وهو الاكتفاء أو الإشباع، الذي يعتبر من أساسات النفس البشرية، وأساسها تحقيق الوجود. وهذه الصدمة تعني أيضاً أنَّ فهم النفس البشرية وحاجاتها والأزمات التي تواجهها، يكون من منطق ذاتيتها وليس وجودها ضمن كليّة المجتمع. فمن اعتبر أن هؤلاء المنتفضين شكَّلوا صدمة لتوقعاته يعتبر في وعيه الباطني أنَّ علاقة الأفراد بواقعهم هي فقط ذاتية، أو ينطلق من منطق التعالي على الأخرين (وبالمناسبة هذه أيضاً إحدى الآليات الدفاعية، كردة فعل عبر عزل الفرد عن محيطه لكي يبرر لنفسه موقعه وممارسته). وهذا نفسه أيضاً عند من تفاجأ في مظاهر العمل الجماعي للأفراد وتضامنهم في هذه الاحتجاجات، أو تفاجأ بقدرة أعداد كبيرة من البشر على مساعدة بعضها بعضاً لتأمين شروط استمرار الاحتجاج. فهذه الممارسات يعلم صاحبها (عن وعي أو غير وعي) أنه يقوم بتحويل حاجته الذاتية إلى حاجة عامة، أي الانتقال من مواقع الأنانية إلى مواقع العمل الجماعي. وكان لاشتداد الأزمة العنصر الذي سهل هذا التحول. وعلى الرغم من هذا التحول بقي تأثير الفردانية الليبرالية خطراً عبر مظاهر «فردنة» العمل الانتفاضي، كظاهرة «البطل المتمرد» أو «السعادة بالإنجاز الثوري».
ولكي نستطيع الخروج (فهماً وممارسةً) من دوامة تأثير الفردانية الرافضة في طابعها، يجب أن نقوم بربط الحاجات الذاتية بالحاجات الجماعية. وهذا التحوُّل الموضوعي الذي حصل بفعل حركة التاريخ لن يتحول إلى فعل تغييري إلا إذا تحرر من خضوعه لغطائه الفرداني، وتحوّله إلى العام- الجماعي، بشكلٍ واعٍ، وتحديداً في إبراز العلاقة بين الفعل الانتفاضي التغييري وبين معنى الوجود.

معلومات إضافية

العدد رقم:
940
آخر تعديل على الأربعاء, 20 تشرين2/نوفمبر 2019 12:14