امتحان آخر أمام الوقائع العنيدة!

امتحان آخر أمام الوقائع العنيدة!

ثلاثية الوعي والنشاط والاكتفاء، تقول بأن كل فرد في أي مجتمع كان يحمل دوراً اجتماعياً ينشأ عنه نشاط معين، هذا النشاط يكون مرتبطاً ببنية الوعي، وهو دائماً موجه نحو الاكتفاء المرتبط بالحاجات المادية والمعنوية، أي نحو غرض وهدف معينين. وهذا الوعي المنبثق من المحيط وشروطه المحددة لإمكانات تطوره، يحمل معه تطوراً في المشاعر والمعاني وجميع ما تحمله الشخصية البشرية من ملامح بشكل عام. وفي سياق هذه الثلاثية من تحديد الأهداف والنشاط من أجل الوصول إليها نحو الاكتفاء، هذا النشاط المتغير حسب كل هدف وحسب كل تغيّر في الوعي (والثقافة ضمناً)، تتغير المعاني. وبالتالي، تتغير الحاجات أو تظهر حاجات جديدة ناتجة عن العقبات التي تظهر خلال السعي إلى تحقيق الأهداف الموضوعة. ويتغير الوعي الذي يحمل معه أحد أكبر العوامل المعيقة لتطوره وهو الخوف والشعور بالذنب.

وإذا قلصنا الثلاثية أو حددناها أكثر يمكننا القول إن الإنسان بكل ما يحمل من تطور في الوعي والشخصية، هو في تفاعل دائم مع المحيط، وهو موجه دائماً إلى إشباع الحاجات.

حول الانتفاضة في لبنان

من يتابع السياسة اللبنانية والتركيبة الاجتماعية يعلم أنَّ محيط الإنسان مفكك في نسيجه الاجتماعي والسياسي إلى أطر طائفية ومناطقية، أو ما يقال «الديمقراطية التوافقية». وهذا النظام المفكك سياسياً نتيجة لطبيعته الطائفية، التي تحافظ على ضرورة استمراريته، تابع اقتصادياً للخارج أو للغرب تحديداً. فنتج عن ذلك تناقض موضوعي بين مصلحة أغلبية الأفراد ضمن «الطائفة» (كإطار سياسي) التي ينتمون إليها، وبين مصلحة الطبقة المسيطرة المنتمية إلى الطائفة «نفسها». وكان للطبقة المسيطرة توجه غير مكبوح نحو النيوليبرالية في سياستها الاقتصادية، بينما هذا الجموح أدى إلى إفقار النسبة الأكبر من أعضاء «الطائفة» أو المنتمين إليها. مما زاد الشرخ بين المسيطر والمحكوم ورفع حدة الحاجة إلى تثبيت السيطرة في الهرمية الاجتماعية، كالدفع نحو الفتنة الدينية، أو بشكل أدق «المذهبية والطائفية»، من أجل الحفاظ على هذه الهرمية الاجتماعية. العامل الطائفي تأثّر بقوة عبر دخول الليبرالية في الحياة اليومية. وبمعنى آخر، كما يقول مصطفى حجازي، إن الشعوب المقهورة تفقد الانتماء والوجود وتعيش اغتراباً عالياً، وكونها لا تحمل انتماءً إنتاجياً أو دوراً وجودياً، وخصوصاً في البنى الريعية التي ينخفض فيها ارتباط الشعوب بعملية الإنتاج الحقيقية، بالتالي وجودها يكون وكأنه ليس ضمن المجتمع نفسه، أي خارجه. وهذا يُنتج ردة فعل طبيعية وغير واعية من قبل هؤلاء الأفراد للبحث عن الهوية والإنتماء، ولا يجدون غير اللجوء إلى الإيمان ولبوسه الطائفي، أو العائلي والمناطقي، أو التشبه بالمسيطر والتماهي به، أو في الشكل الأكثر بروزاً عبر ممارسة العنف.
وهذه التركيبة التي تساهم في تثبيت السيطرة لم تعد بقادرة على الاستمرار مادياً، وببساطة لأن الأفراد لم يعد بإمكانهم حتى تحقيق حاجاتهم الأساسية، بعد الأزمة التي يعيشها العالم، واستفحال الإجراءات التقشفية، وانغلاق الأفق والمستقبل، وهذا ما أدى إلى تغيّر نسبي في الوعي، أي إلى الانتفاض كتغيّر في النشاط، الذي يهدف إلى تغيّر في الواقع. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل فرد يعلم ما هو النشاط الذي يجب أن يقوم به للوصول إلى حاجاته، خاصةً أن فقدان إشباع الحاجات شمل الأغلبية والتي لا تنتمي إلى نفس الطبقة، أي أنّ هناك انخراطاً ليس فقط للقوى المفقرة مادياً، بل أيضاً هنا انخراط للقوى المفقرة معنوياً وروحياً، والتي تنتمي غالباً للفئة الوسطى. وهذا ما رفع من نسبة عدم التجانس الطبقي، أي عدم التجانس في المنطلقات والملامح النفسية لهذه المكونات. عدم التجانس هذا يفترض دوراً أكبر للقوى الطليعية لكي تقوم بدور الجامع المعرفي والمعنوي والتنظيمي في ظل عدم التجانس هذا في مكونات القوى المنتفضة.
ولكن، إذا ما واجهت مرحلة النشاط عقبات وتحديات في تحقيق الأهداف، فإن الانتقال إلى مرحلة تغيير الواقع ستكون مكبوحة بالضرورة. وهذا يعني أنَّ الدورة الانعكاسية من الواقع إلى الوعي لن تكتمل، فالواقع الجديد لم يولد، ولهذا فسيبقى الوعي العفوي- الذي تخلخل بداية- قادراً على ترميم نفسه حسب إحداثياته القديمة. فالمعاني التي كان لها أن تنشأ نتيجة الدور الجديد لم تستبدل المعاني القديمة (التي كانت سابقاً طائفية مثلاً في تفسير الواقع)، بل هي ظهرت إلى جانبها، ولم تتحول إلى نظام معانٍ متكامل في العلاقة مع الواقع. خصوصاً أنَّ الأفراد غير قادرين عفوياً على تملك هذا النظام الجديد من المعاني إلا تجريبياً غالباً، في ظل غياب منصة معرفية حاملة للمعاني الجديدة ومُنتَجة عادةً من قبل حامل هذه المنصة المتقدمة كالأحزاب الماركسية. وخصوصاً في ظل واقع معقَّد يحتاج إلى تملكه بشكل موحد مستوى معرفي وعلمي، وخبرة سياسية تكثف التجربة التاريخية للصراع الطبقي في المئتي سنة الماضية تحديداً. وهنا يبرز دور الإطار السياسي القادر على التعاطي مع الواقع في وحدته، وفتح آفاق السير فيه نظرياً.
فقدان الرؤية عن الحاضر والمستقبل من جهة، وانكباح الدور العملي نتيجة انكباح تقدم عملية التغيير، يتيح عودة الفعالية لنظام المعاني القديم الذي تخلل. قد تكون هذه العودة متخلخلة، ولكنها تشكل ردة رجعية تبني عليها السلطة هجومها المضاد، ولو إلى حين. «إلى حين»، لأن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع لم تُحل، وستعود لتُخضِع نظام المعاني الفردي إلى امتحان أمام الوقائع العنيدة. وعملية استبداله بالجديد تحتاج إلى نظام معانٍ متكامل مُنتج من قبل القوى الطليعية، فاتحاً الطريق للنشاط العملي نحو تحقيق الاكتفاء المادي والروحي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
938
آخر تعديل على الإثنين, 04 تشرين2/نوفمبر 2019 12:11