التربية والتغيير؟
كيف تتكون شخصيتنا ومعتقداتنا وما الذي يُؤثر فيها؟ سؤال تتعدد الإجابات عنه، فهناك من يقول: إن للتربية العامل الأبرز أو حتى الوحيد في هذا، فكل ما نكتسبه هو نتيجة كيف تربينا، وهناك من يقول: إن للوراثة العامل الأبرز. وعلى هذا الانقسام قامت نظريات علم النفس في صياغة تطور وعي وإدراك ومشاعر الأطفال، ومنهم من قسمها إلى مراحل معينة بحسب العمر.
فمثلاً: يقوم فيلم Birthmarked على تجربة لإثبات أن التربية تتفوق على الوراثة أو الطبيعة (كما يقول تيار تغليب العامل الوراثي) في تشكيل وعي وشخصية الأطفال. يعرض الفيلم بشكل فكاهي تجربة لعالمي نفس بتربية ثلاثة أطفال بطرق مختلفة، ويخلص إلى أن للتربية والطبيعة تأثيراً على تطور وعي وشخصية الأفراد. ويعرض أيضاً لرفض الرأي العام لهذا النوع من الأبحاث، أو لما يسمى بالبحث: حق المشاركين معرفة نوع وآلية ونتائج البحث. ولكنه فعلياً لم يحل المعضلة التي إلى الآن تثار حولها التساؤلات، أولاً: لأن أي إخراج هوليوودي لن يستطيع حلها. وثانياً: لأن المسألة تتعدى التربية المباشرة أو الطبيعة المباشرة، ليطلب البحث مجمل البنية الاجتماعية.
صحيح أنّ العنصر الأول المؤثر في وعي أو شخصية الأطفال هو الوضع العائلي، وإلى ذلك تضاف العائلة الموسعة، وبعد ذلك العناصر الأخرى، مثل: الحي والمدرسة والعلاقات الاجتماعية الموجودة في محيط الطفل، والتلفاز والموسيقا وأي عنصر يحتوي قدرة على التأثير أو خلق وعي أو إدراك ما. ويُضاف إلى ذلك تأثير العادات والمعتقدات الاجتماعية لهذا المحيط. ولكن لا يمكن الخلوص إلى جوهر أزمة تربية الجيل الجديد دون البحث بالنمط الاقتصادي السياسي الاجتماعي السائد، بما ينقل البحث إلى مستوى أرقى من العوامل المنفصلة أو المبحوثة فردياً.
فالنمط الاقتصادي السائد يحدد الوضع السياسي والأمني في أي بلد معين والذي يفرض نوع عمل وأسلوب حياة مختلفة. وهو يفرض الحاجات والكوابح التي تمنعها، ويفرض حدود الحركة على الجميع، وسقف رضاهم العام المادي والمعنوي. فتأتي القيم والعادات الموروثة لكي تتلاقى مع هذا الواقع الذي يعززها أو يتجاوزها، فالنظام السائد من جهة، والأزمة التي تمر بها دول كدولنا من جهة أخرى، ترفع درجات عدم الرضا عند الأهل أولاً، ما يهدد علاقتهم ببعضهم كزوجين، حيث إن علاقتهما وبسبب التفكك في الأدوار الاجتماعية قد جعل من العلاقة غير متلاحمة منذ الأساس، حتى قبل قيام العوامل الضاغطة الأخرى كالعمل المادي مثلاً. هذا الشعور من عدم الرضا وتشوّه الحاجات المبني عليها، والضيق المادي المرافق كلها تهدد كيفية تربية الأولاد، وكيفية تربية البنات، خصوصاً موقع المرأة في البيت والمجتمع. وأين أصبح اليوم مع تغيّر موقعها إلى ضرورة كونها تعمل خارج المنزل ولكن في ذات الوقت بقاؤها على نفس الموقع من جهة التربية والاهتمام بالأطفال والبيت والمهام الأخرى. في النظام السائد، هكذا تتحدَّد الأدوار الاجتماعية الأخرى، كنوعية العمل وشكل اختيار وتقرير الزواج والإنجاب وغيرها. والفرق بين التربية في مجتمع محافظ ومجتمع غير محافظ، وبين التربية في بلد غير آمن أو محتل وبلد لا يعيش توتراً أمنياً. هذا النظام الذي يحدد أساساً الوضع المادي، وما يسمح به وما لا يسمح به. فالمتاح في ظل العلاقات الرأسمالية مرتبط بالقدرة المادية أولاً، من حيث نوعية التعليم ونوعية الأنشطة التي ممكن للأولاد القيام بها. وبالتالي، الفرص المتاحة لهم لاحقاً في الحياة. وأي مثل بسيط قد يعكس هذا، في الهوايات، الفن، الرياضة، أو حتى طريقة لهوهم. ومع إدخال التكنولوجيا إلى حياة الأطفال توسعت الهوة بين ما يمكن القيام به أي: القدرة المادية والاجتماعية للأهل وما هو موجود أمامهم من خيارات.
واليوم، عندما نطرح موضوع التربية وكيفية تحسينها يجب علينا طرح هذه العناصر جميعها، ضمن طرح طبيعة النظام وليس فقط التركيز على معالجة التعامل مع الطفل بالانفصال عن المشاكل العائلية، أو على تحسين أو حل مشاكل العائلة النواة فقط. ويجب النظر إلى الفرص والإمكانات المتاحة للأطفال ولذويهم كذلك حاضراً ومستقبلاً. ففي ظل انغلاق الأفق أمام المجتمع لصالح طبقة قليلة معينة والتوسع في التأثيرات والحرب على الوعي والشخصية عند الأطفال ومحيطهم، فإن معالجة تطور الوعي أو المشاكل التي تتفاقم عند الأطفال، مثل: التوحد أو فرط الحركة يجب أن تأخذ طابعها الكلي وليس الضيق.
يتعاطى العلم اليوم مع مسألة التربية مثلما يتعاطى الفيلم معها، فهو دائماً في تردد وفي حالة الـ لا موقف أو لا نهاية واضحة. وهذا ما يفاقم أزمة النمو ويفاقم أزمة التقدم الفكري المبكر عند الأطفال، ويفاقم الاضطرابات النفسية التي تنشأ لاحقاً، نتيجة أسلوب التربية حيث إن علاقة الأهل مع الطفل تصبح تفريغاً لعدم الرضا العام الموجود. وهذا التشوّه العلائقي هو مثل «معالجة»، أي: اضطراب نفسي، حيث يمكن لنا أن نقوم بمعالجته مؤقتاً ولكنه سيعود لاحقاً وفي درجة أقوى كوننا لم نحل سببه الأساس. لهذا فإن التربية الضرورية هي أن يضطلع المجتمع ككل بهذه المهمة مادياً ومعنوياً، ومن ثم يتم تغيير أسس الحياة التي ترسم الخيارات الفردية ضمن العائلة وأسلوب التربية الخاص المعتمد. فحسب ماركس: الذي يجب أن يقوم بالتربية هو العملية الاجتماعية التغييرية نفسها، كون من هو مطلوب منه اليوم أن يعتني بالأطفال هو نفسه بحاجة لكي يُولد مجدداً حتى يصير قادراً على تقرير مصيره، وهكذا يكون قد تربّى هو نفسه. فتصير مسألة التربية الجديدة هي مسألة تشكيل الحياة الجديدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 920