الرأسمالية والصحة العقلية
تشير التقديرات الأخيرة لمنظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من ثلاثمائة مليون شخص يعانون من الاكتئاب في جميع أنحاء العالم.
ديفيد ماثيوز
ترجمة:رامان شيخ نور
ويقال: إن ثلاثة وعشرين مليون شخص يعانون من أعراض انفصام الشخصية، في حين أن ما يقرب من ثمانمئة ألف شخص ينتحر كل عام.
يقول الكاتب الماركسي ديفيد ماتيوس :«إن اضطرابات الصحة العقلية في الدول الرأسمالية الاحتكارية، هي وراء أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، والتي هي السبب الرئيس في انخفاض متوسط العمر المتوقع».
وفي الاتحاد الأوروبي 27 % من السكان البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و65 يعانون من مضاعفات في الصحة العقلية.
وتوضح الدراسة الاستقصائية بخصوص الأمراض النفسية التي أجرتها الخدمة الصحية الوطنية للبالغين، أنه في عام 2014، كان 17,5 % من السكان فوق سن السادسة عشرة يعانون من أشكال مختلفة من الاكتئاب أو القلق، مقارنة بنسبة 14,1% في عام 1993.
وتهيمن التفسيرات البيولوجية في المجتمع الرأسمالي على فهم الصحة العقلية، ومن الأمثلة على ذلك نظرية الاختلالات الكيميائية في الدماغ- التي تركز على تشغيل النواقل العصبية، مثل: السيروتونين والدوبامين- والتي استحوذت على الوعي الشعبي والأكاديمي على الرغم من أنها ظلت غير مدعومة إلى حد كبير.
وعلاوة على ذلك، تعكس شعبية الاختزال الوراثي في العلوم البيولوجية، ولقد كان هناك جهد لتحديد التشوهات الجينية كسبب آخر لاضطرابات الصحة العقلية.
وإن العلاقة الحميمة بين الصحة العقلية والظروف الاجتماعية قد تم حجبها إلى حد كبير، مع تفسير الأسباب المجتمعية ضمن إطار طبي بيولوجي وتغطيتها بمصطلحات علمية.
وتبدأ وتنتهي التشخيصات بشكل متكرر بالفرد، وتحدد الأسباب الحيوية على حساب فحص العوامل الاجتماعية. ومع ذلك، يجب الاعتراف بالمنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع كمساهم مهم في الصحة العقلية للناس، حيث تكون هياكل اجتماعية معينة أكثر فائدة لظهور الرفاهية العقلية أكثر من غيرها.
وكما قال الأستاذ الماركسي إيان فيرغسون، «إن النظام الرأسمالي الذي نرزخ تحته مسؤول عن المستويات الهائلة من مشاكل الصحة العقلية التي نراها اليوم في العالم. إن التخفيف من حدة الاضطرابات النفسية ممكن فقط في مجتمع خالٍ من الاستغلال والقمع».
الصحة العقلية والرأسمالية الاحتكارية
يقوم بول باران وبول سوسيزي في الفصول الأخيرة من كتاب «الرأسمال الاحتكاري»، بإيضاح نتائج الرأسمالية الاحتكارية على الصحة النفسية، قائلَين: إن النظام يفشل «في توفير أسس مجتمع قادر على تعزيز التنمية السليمة والصحية لأعضائه».
وبدلاً من أن تكون فرصة لتحقيق الشغف، يناقش باران وسويزي بأن الترفيه قد أصبح مرادفاً إلى حد بعيد للكسل.
ولم تعد تستهلك من أجل استخدامها، وأصبحت السلع الاستهلاكية علامات ثابتة للهيبة الاجتماعية، مع الاستهلاك كوسيلة للتعبير عن الوضع الاجتماعي للفرد.
ومع ذلك، فإن النزعة الاستهلاكية في نهاية المطاف تولد عدم الرضا، لأن الرغبة في استبدال المنتجات القديمة بأخرى جديدة تتحول إلى الحفاظ على مكانة الفرد في المجتمع، في سعي لا هوادة فيه لتحقيق معيار لا يمكن الحصول عليه.
ويقول باران وسويزي: «في الوقت الذي نفي بالاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، فإن العمل والاستهلاك» يفقدان بشكل متزايد مضمونيهما الداخليين. «والنتيجة هي مجتمع يتميز بالفراغ والتدهور».
ولا يزال المجتمع الرأسمالي الاحتكاري الحديث يتسم بعدم التوافق بين السعي الرأسمالي من أجل الربح، والاحتياجات الأساسية للناس.
ونتيجة لذلك، يتم تقويض الظروف اللازمة لتحقيق الصحة العقلية المثلى ، حيث يعاني المجتمع الرأسمالي الاحتكاري من الاضطرابات العصبية ومشاكل صحية عقلية أشد قسوة.
الصحة العقلية والطبيعة البشرية
بالنسبة لماركس كان الاغتراب مثالاً على التأثير الجسدي والذهني للرأسمالية على البشر. حيث تكمن قيمة فهم الصحة النفسية في توضيح التمييز الذي يظهر في ظل الرأسمالية بين الوجود البشري والجوهر.
ويرى ماركس: أن الطبيعة البشرية تتكون أولاً: أن نتعامل مع الطبيعة البشرية بشكل عام وأن هناك احتياجات ثابتة، مثل: الجوع والرغبات الجنسية، وثم هناك رغبات نسبيّة تنبع من التنظيم التاريخيّ والثقافيّ للمجتمع.
ويعترف فروم بأهمية الاحتياجات البيولوجية الأساسية، مثل: الجوع، والنوم، والرغبات الجنسية، والتي تشكل جوانب من الطبيعة البشرية.
ويمثل ما يطرحه فروم على أنه طبيعة بشرية عالمية، فإن تلبية هذه المحركات أمر ضروري لتحقيق الرفاهية العقلية.
وكما قال: تتحقق الصحة العقلية إذا تطور الإنسان إلى مرحلة النضج الكامل، وفقاً لخصائص وقوانين الطبيعة البشرية.
ويتكون المرض العقلي في فشل هذه التنمية، ورفض فهم التحليل النفسي التي تؤكد على رضا الرغبة الجنسية والأقراص البيولوجية الأخرى، والصحة العقلية.
ويؤكد فروم، أن آثار ذلك على الصحة العقلية هي إذا لم تجد إحدى الضروريات الأساسية أي إنجاز، فإن الجنون هو النتيجة ؛ إذا كان راضيا ولكن بطريقة غير مرضية فالعصاب هو النتيجة.
ورغم عدم إنكار وجود أسباب بيولوجية، يجب الاعتراف بأن التنظيم الهيكلي للمجتمع له تداعيات خطيرة على الصحة العقلية للناس.
وتعمل الرأسمالية الاحتكارية على منع الكثيرين من مجابهة الرفاهية العقلية. ومع ذلك، ورغم ذلك، لا يزال النموذج الطبي يهيمن، مما يعزز المفهوم الفردي للصحة النفسية ويخفي الآثار الضارة للنمط الحالي للإنتاج.
وكما يشجع النموذج الطبي على تقليص الحقوق المدنية للأفراد إذا واجهوا ضائقة نفسية، بما في ذلك عن طريق إضفاء الشرعية على انتهاك عملهم التطوعي واستبعادهم من صنع القرار.
وباعتماد منظور مادي واسع النطاق، فإن النموذج الاجتماعي للصحة العقلية يُعالج الحرمان المادي والظلم والإقصاء السياسي، كأسباب هامة للمرض العقلي.
في عام 2017 في بريطانيا، رفضت مجموعة العمل الخاصة بالصحة العقلية صراحة، النيوليبرالية، حيث ساهم التقشف وخفض الضمان الاجتماعي في زيادة انتشار الأفراد الذين يعانون من سوء الصحة العقلية.
وتعتبر المجموعة «تدابير التقشف، والسياسات الاقتصادية، والتمييز الاجتماعي، وعدم المساواة «المسبب في إلحاق الضرر بالناس.
ولا يمكن للرأسمالية أبداً أن توفر الظروف الأكثر ملاءمة لتحقيق الصحة العقلية. إن القمع والاستغلال وعدم المساواة يعرقلان الإدراك الحقيقي لما يعانيه الإنسان.
ويجب أن يكون التصدي لوحشية تأثير الرأسمالية على الرفاهية العقلية محوراً أساسياً للنضال الطبقي، لأن النضال من أجل الاشتراكية لا يقتصر على المساواة المادية، بل للبشرية والمجتمع الذي تكون فيه جميع الاحتياجات البشرية، بما فيها الاحتياجات النفسية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 903