معان تتوق للتحرر
من شهد التغير السياسي العالمي في بداية التسعينات إلى الانفتاح الليبرالي، شهد أيضاً تغيّراً في المفاهيم الاجتماعية الموجودة، نحو مفاهيم أحياناً متناقضة مع تلك التي كانت تحكم حركة المجتمع، وأحياناً مُغيّرة لتركيبة هذه المفاهيم ومعنى حركتها في المجتمع. استمر هذا التغير أو يستمر إلى اليوم، ولكن بشكل أكثر حدة وأكثر تناقضاً، لأنه يترافق مع الأزمات السياسية بانعكاسها الاقتصادي والاجتماعي. هذا الانعكاس يفرض تعديلاً على المعاني الموجودة لكون معنى الدور الاجتماعي متغيراً أو يتغير مع تغير الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وبالضرورة ستنتج معانٍ منطلقة من الواقع الموجود، ومدى انغلاق أو انفتاح أفقه أو فرصه.
كيف تنعكس هذه المعاني؟
في العام، تؤدي حركة التاريخ والمجتمع إلى تغيّر في المفاهيم والمعاني المستعملة، لكون المعاني أتت من حركة التاريخ، ومن ضرورة التعبير عما يجري، وبتغير هذه الحركة يتغير التعبير المقصود عنها. فالتغيّر في المعنى هو ضروري مع ضرورة حركة التاريخ ويعكس تطور أو اتجاه هذه الحركة، فمثلاً يمكن للأدب والشعر تجسيد هذا التغيّر في المعاني والمصطلحات في كل حقبة زمنية معينة. كما للفن والموسيقى والأغاني، التي تسجد تغيّراً في العلاقات الاجتماعية، وفي طريقة التعبير عن هذه العلاقات. اليوم، تنعكس هذه المعاني بحسب حجم انعكاس الأزمة السياسية والاقتصادية على المجتمع، هذا إذا سلّمنا جدلاً أنّ العالم بأجمعه يعيش عدم استقرار سياسي، وبالتالي اقتصادي واجتماعي، حتى الدول الصاعدة، مثل: الصين تعيش عدم استقرار خلال هذا الصعود وخضات اقتصادية واجتماعية. وستنعكس هذه المعاني أزمة وجود بمعنى الحياة أو الموت (إما بالحروب أو بالاحتلال- فلسطين) أو بمعنى أزمة محاولة تفسير الواقع والتغيرات. ومن هذه الأزمات يبني الفرد من خلال حركته ومعاناته اليومية معاني جديدة، فيكون مجموعها انعكاساً لأساليب حياة جديدة، واليوم بسبب النظام المتناقض والتشوه في نمط الحياة الحالي، يصير المعنى المرافق له غير ثابت أو متناقض. وأن الاختلاف بحجم وانعكاس الأزمة السياسية يفرض اختلافاً بحركة المجتمع، فيفرض اختلافاً في هذه المعاني. فالاحتلال فرض على الفلسطينيين إما المقاومة أو الخروج (تغييب الواقع) لذلك معنى المقاومة لا يزال واضحاً لأن حركة المجتمع لم تخرج من هذا الواقع المفروض عليها. مثلما فرضت حركة المجتمع السياسية تقدماً مختلفاً بين دول المنطقة، فلبنان مثلاً أخذ منحىً أكثر ليبرالية وبشكل مبكر وهذا منعكس في الطروحات الاجتماعية فيه، مثل: النسوية والمثلية الجنسية والسلام مع العدو– التي يختلف طرحها عن الطرح الذي وجد خلال أو قبل الحرب الأهلية اللبنانية لأن الطرح الحالي مصبوغ بطابع تفسير «علمي/إنساني» لا سياسي (صراعي) محض. ومثلما أنّ الحرب في سورية فرضت معاني جديدة مختلفة ومتناقضة بحسب كل فرد حسب موقعه في هذه الحرب، ومنها، وبحسب قدرته على الصمود أو المراوغة انتظاراً لتغيّر في الأحوال. ولكن مما لا شك فيه أن أزمة النظام الرأسمالي العالمي انعكست تغيّراً في معاني الحياة البسيطة والمباشرة، مثل: الوجود والانتماء والهوية والمشاريع الكبرى أو انهيارها وتقلصها.
مواقع التواصل الاجتماعي والنسوية
هذا الاتجاه الهائل نحو مواقع التواصل الاجتماعي الذي يأخذ منحىً متطرفاً أحياناً كثيرة في كمية الوقت المصروف على موقع افتراضي، وكمية الجهد المبذول للظهور الذاتي من خلاله يعكس تغيراً في المعاني، أي: تأزمت في معاني التواصل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، ومعنى وجود الإنسان الحقيقي خارج هذا الفضاء الافتراضي. بمعنى، أن علاقتنا بالمجتمع أصبحت من خلال هذه المواقع، كما أن تأكيد وجودنا وتعبيرنا مرتبطة به. مرتبطة بمدى تجاوب هذا الموقع مع حياتنا اليومية ومدى قدرته على تلبية معنى وجودنا. ولكن هذه المعاني الجديدة في أسلوب جديد من التعبير لم ينفِ المعنى الموضوعي في جوهرها، ولم ينف أو يحقق ضرورة الوجود والانتماء والتعبير، بل حرف معناه إلى تعبير أو أسلوب آخر مستعملاً أشكالاً أخرى .
وتترابط المعاني، مثل: التوجه نحو التطرف في طرح النسوية أو المثلية الجنسية مع مصدر ارتفاع منسوب القلق عند حامل المعنى، ولكن انصب المعنى في منحى منحرف على أساس عدم وجود أرضية واعية لتستند إليه صياغة الشكل الواعي لهذا المعنى ، بل بنية فكر النظام الحالي الذي ولد هذه التناقضات.
قد نكون على خطأ في كل هذا، خاصة وأن الحديث عن المعنى مرتبط مباشرة بالحركة والدور الاجتماعيين، ولا يؤخذ بشكل جامد. ولكن بالتأكيد، إن هذا المعنى المتحرك مع ضرورة التاريخ يتطلع ليكشف عن نفسه، ويتحرر من شكله المناقض لجوهره، أي: لمضمونه الإنساني المغرب.