«التخلُّف» القسري
تُتَّهم مجتمعات العالم الثالث بعضها وتَتَّهِم نفسها بالتخلف، تضع نفسها في دونية عن باقي الدول، وتحاول باستمرار الخروج من هذا التخلف إلى حيث التقدم والديمقراطية، حيث هناك لن نعيش كما نعيش هنا. هذا الاتهام بالتخلف والحالة الدونية المرافقة هي قشرة ما ينتجه الاضطهاد في الواقع الاجتماعي والنفسي لهذه المجتمعات. وقد كثرت التحليلات عمّا أنتج التخلف فيها، كالتحليلات حول التخلف الذاتي بأننا بطبيعتنا لم نتطور لنستطيع التغلب على التخلف، وعلى أنّ مجتمعاتنا ظلت تعيش في ما قبل الحضارة. ومن هذا التحليل يأتي تحليل الدونية الهرمية لهذه المجتمعات عن المجتمعات المتقدمة، وجميع هذه التحليلات التي لا تزال تجد صداها إلى اليوم إمّا في أذهان البشر أو من خلال الدعاية (في الأفلام والروايات مثلاً)، لم تنطلق من الواقع التاريخي والبنيوي لهذه المجتمعات التي وضعها في موضع المتخلف والتي جعلها تشعر بدونية عن باقي المجتمعات.
القهر الاضطهادي
يضع مصطفى حجازي (أستاذ في علم الاجتماع لبناني) أسباب التخلف تحت صورتين: الأولى، هي: عالم الضرورة. والثانية، هي: القهر الاضطهادي. ويرفض الأقوال التي تربط تخلف بلداننا بطبيعتنا غير المتطورة. ينطلق حجازي من تعريفه لـ «التخلف» في بلدان العالم الثالث ليصل إلى تفصيل سيكولوجية الإنسان المقهور. ويشدد على أنّ تعريف «التخلف» في العالم الثالث يجب أن يكون بكليته انطلاقاً من المسببات والانعكاسات جميعها. فالتعريف يجب أن ينطلق من الواقع التاريخي الذي عاشته هذه البلدان من استعمار واحتلال إلى الواقع البنيوي التبعي الذي تعيشه. لذلك يربط هيكلية النظام الاقتصادي في هذه البلدان التي كرسها الاستعمار بالبقاء ضمن «التخلف»، وهي في الهوة الهائلة في توزيع الإنتاج وتمركزه، والتبعية للخارج، وتضخم قطاع الخدمات (بخاصة البنوك) على القطاعات الأخرى– كما هي الحالة في لبنان مثلاً. هذا «التخلف» في انعكاسه على المستوى المادي هو استلاب اقتصادي واجتماعي، أما في انعكاسه على المستوى الفردي يؤدي إلى استلاب نفسي، أي يُسلب الإنسان على الأصعدة الثلاث في وجوده وقيمته. فمن هنا يصف نمط «التخلف» في بلدان العالم الثالث بفقدان وهدر قيمة الإنسان، الاستلاب الطبيعي لإنسان وُلد في بلدان العالم الثالث، والقهر التسلطي نتيجة هيمنة القلة المتحالفة مع قوى خارجية أو الاستعمار. لذا فـ «التخلف من المنظور النفسي العريض يتجاوز... مسألة التكنولوجيا والإنتاج، ليتمحور حول قيمة الحياة الإنسانية والكرامة الإنسانية»، منتجاً سيكولوجيا الإنسان المقهور.
واذا أخذنا تفصيلات حجازي في طرح سيكولوجية الإنسان المقهور والأمثلة العديدة التي نراها أمامنا نجد أننا أمام واقعٍ مبكٍ في حدة قهره واضطهاده للأفراد، وأمام مأساة تكبر مع مرور الزمن، ومع كبر الأزمات التي نعيش.
أي إنسان مقهور نجد اليوم
بالنسبة لحجازي الإنسان المقهور فاقد لقيمته وكرامته وهو يعيش على الخوف الدائم من عدم القدرة على السيطرة على مصيره ومن العنف الدائم تجاهه من قبل المسيطِر. نرى إحدى سِمات فقدان الكرامة والقيمة اليوم، اللجوء إلى التطرف الاجتماعي، إما التطرف الديني أو الفاشية أو التطرف في «الانفتاح» الأخلاقي. فالإنسان في بحثه عن قيمته وفي محاولته تخفيف الخوف والقلق الناتح عن اضطهاده يبحث بالقوة عن انتمائه. خاصة أنه مع ارتفاع التناقض في الأزمة الرأسمالية والحروب وارتفاع الأزمات الاجتماعية الناتجة عنها، تغيرت المفاهيم التي كانت تحكم المجتمع أو بدأت تتغير، مثلاً: نحو الانفكاك من سيطرة العائلة أو وزناً أقل لتأثير العائلة في المجتمع. السيطرة التي كانت إحدى دعائم الإنسان المقهور، أي: اللجوء والاحتماء بالعائلة أو العشيرة وتعريف النفس من خلال هذه العائلة، ومع الانهيار في البنى الذي نشهده يجب أن يجد هذا التعريف تعويضاً له في آلية دفاعية أخرى تحمي الإنسان المقهور من القلق المرتفع، وتخفف عنه خوف عدم الانتماء الذي يعيش فيه. ولكون المجتمع في أزمة لا يمكن أن يجد الإطار السليم الذي يسمح للإنسان المقهور أن يخّفف من اضطهاده وقمعه، بل سيجد أطراً مضطربة أكثر من التي كانت موجودة مثل: التطرف في طرح الأمور، إمّا في أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
كما يقول حجازي: إن حل أزمة «التخلف» يجب أن يكون شمولياً، ويسمح للإنسان باستعادة قيمته وقيمة الحياة. فإذا كان سبب التخلف في البنية الاقتصادية التابعة وفي تركيبة المجتمع، فلا بد للحل من أن يرتكز عليها. هذا الحل الذي يجب أن يكون سريعاً لأن الإنسان حتى مع كبته وقمعه لن يرضخ كثيراً لتغييب القيمة، وسيلجأ عاجلاً أم آجلاً لاستعادة قيمته عبر الأشكال المتاحة أمامه، والتي قد تكون مغذيةً لدوامة عنف تدميرية أخرى، إذا ما كانت تلك الأشكال في غير سياقها الاقتصادي والاجتماعي الصحيح، أي: اقتصاد منتجٍ غير تابع، وعدالة وديمقراطية شعبية حيث للفرد ضمن المجموعة دور حقيقي.