العلم الرسمي يبشّر أخيراً: (نحن بحاجة لعملية تغيير ثقافية)!
مقالة في مجلة (علوم)(Science) العالمية في إصدارها الـ 358(6368) في الثامن من كانون الأول 2017 (الأسبوع الماضي)، تحت عنوان (التحرش في العلم هو حقيقي)، للكاتبتين: (روبين بيل)، رئيسة الاتحاد الأمريكي للجيوفيزياء، والأستاذة في جامعة كولومبيا (نيويورك -الولايات المتحدة)، و)لارا كونييغ)، العالمة في مركز المعلومات الوطني للجليد والثلج في المعهد التعاوني للبحوث البيئية في جامعة كولورادو؛ تتناول الكاتبتان قضية التحرّش في مجال الأكاديميا، خصوصاً بعد بروز حركة التنديد بالتحرش في مجال العلوم تحت وسم (#وأنا أيضاً) (#MeToo) وتوسع حركة التصريح من قبل العلماء والباحثين حول مواقف تحرش حصلت معهم في مراكز البحث والبعثات البحثية عامة، (بعد عقود من الصمت وإخفاء القصص) تقول الكاتبتان، حيث إن (أكثر من نصف النساء في الأكاديميا اختبرت التحرش).
التحرش، النفوذ والمنظومة الرأسمالية
تقول الكاتبتان إن ضحايا التحرش والإساءات السلوكية أخفوا ذلك لأسباب تتعلق بالحفاظ على الأمان الوظيفي والاجتماعي، حيث إن المتحرش وفاعل الإساءة غالباً هو من المتنفذين في مجال علمي_ بحثي محدد، واعتبرت الباحثتان: أنه بتنفده هذا يملك مفاتيح الترقيات والتمويل والتوظيف والنشر والقبول العلمي لأي باحث/ة جديد/ة...إذا هو مقرر مصير العاملين في المجال المعني، والمواجهة أو الإعلان تعني: خسارة الموقع العلمي الوظيفي لـ ( الضحية)، بينما (المعتدي) يكسب السلطة والحضور... ويحصل على الترقيات والتكريم، والضحية تجلس صامتة بين المتفرجين).
الثقافة، والتغير البطي: ألسنا شعلة التغيير النقيّة؟!
بالنسبة للكاتبتين، لم تشهد الثقافة السائدة بشكل عام في الأكاديميا تحولاً سريعاً خلال العقود الماضية، تجاه رفض هكذا ممارسات مضرة بالأفراد والعلم على حد سواء، إلى حد (أنها مماثلة لبطء ذوبان القطع الجليدية).
ولكن في العام الحالي، وعلى ضوء حالة التعبير الواسعة عن التحرش والإساءة ورفضهما، التي أصبحت الأوساط العلمية_ البحثية تشهدها، قامت تجمعات علمية عدة، ببلورة معايير متعلقة بالتحرش وإجراءات وظيفية وأخلاقية تجاه المذنب، مثل: المعهد الأميركي للعلوم الجيولوجية، والاتحاد الأميركي للجيوفيزياء، في إعلانهما التحرش كـ (إساءة سلوكية غير علميّة). وبالتالي: تعتبر الكاتبتان أن الحل يكمن في تغير ثقافي ضمن الأكاديميا والعلوم بشكل عام من خلال ثلاثة عناصر، أولاً: فردياً عبر فهم موضوع التحرش وانتشاره. ثانياً: من خلال الفرق البحثية التي يجب أن تطور القواعد السلوكية. وثالثاً: من خلال التجمعات العلمية التي يجب أن توفر التدريب حول القيادة الأخلاقية؛ هذه العناصر التي من شأنها (أن تحفز تغييراً قوياً).
هذا الموقف ربطته الكاتبتان بوظيفة العلم والعلماء الاجتماعية، الذين يجب أن يكونوا (مبتكرين ومتنوعين، لحماية البشرية، وفهم كوكبنا الأم، والدفع بنا لاكتشاف الفضاء الخارجي).
عمق الأزمة، المنظور المقلوب للواقع، والتبشير
ليس جديداً أن يعبر الفكر الرسمي عن فهمه المثالي _ الفوقي (غير العلمي) للقضايا الاجتماعية، في عزلها عن واقع النظام الاقتصادي والعلاقات الناتجة عنه. حيث إن أية ظاهرة تواجه بالطريقة (التبشيرية) التي تعتقد أنه بمجرد أن تتم الدعوة (الثقافية) للتغيير فإن هكذا تغيير سيحصل.
التحرش ظاهرة عامة في المجتمع، ولا تنحصر فقط في مجتمع العلماء (المنزّه والراقي)، حيث إن المقال بالرغم من تدليله على الظاهرة، وجانب الأزمة والتناقضات الأخلاقية التي يعاني منها المجتمع البحثي والعلمي عالمياً، في تداخل مستويات الربح المادي، والسلطة، والتنفذ، مع التشوهات الأخلاقية_ النفسية للمجتمع الرأسمالي عامة؛ إلا أن المقال يحمل نفساً متعالياً في عزله وتركيزه على المجتمع العلمي خاصة.
(المربِّي عليه أن يتربّى هو نفسه)_ ماركس
معالجة التحرش المرفوض من مجتمع العلماء (الراقي!)، كما معالجة باقي الظواهر الاجتماعية المشوهة، يمكن في تغيير النظام الاجتماعي_ الاقتصادي المولّد لها. فالرأسمالية، أولاً: في تغريبها للذات الإنسانية، تشوّه الحاجات في واقع قمعها عن التحقق الضروري وتحرفها. ثانياً: هي تدعم هذا التشوّه من خلال منظومة السلطة والتنفذ والاستغلال، ومنظومة القيم والأخلاقيات المتناسبة مع العلاقات الاستغلالية ومراكمة الثروة، خصوصاً تسليع المرأة والرجل في آن، وصناعة الصور النمطية عن كليهما، وتفريغ العلاقات من مضمونها الإنساني، واعتبارها محض (شهوانية)، التي لا يسلم منها أي حقل اجتماعي. وبالتالي لا يمكن للبنية الاجتماعية (المريضة) بأمراض الرأسمالية، أن تعالج نفسها من ضمن الرأسمالية، في تعبير عن مقولة ماركس أعلاه، بل إن البنية يجب أن (تتربى)(تتغير) لكي تقدر على تأمين الأرضية لتربية مختلفة، في عملية ولادة متجددة للمجتمع في مخاض الصراع السياسي_ الاجتماعي نحو العدالة والسلام والتقدم المادي والمعنوي.
العلوم التي طالما أعلن العقل الرسمي أنها (حيادية_ موضوعية) هي على العكس، تحمل ملامح وخصائص الرأسمالية وتناقضاتها، ولا توجد من خارجها. فكم (متحرش) أو انتهازي مرتزق أو مهادن للواقع الاستغلالي وعلاقاته، أصدر كتاباً أو بحثاً ولا زال يُصدر، ويريدنا العقل الرسمي الرأسمالي أن نعتبرها مسلمات، فقط لكونها (علميّة).