أمراض الرأسمالية؟
تشكل الأمراض العصبية مصدراً لفهم مدى تأثر الجسد بالوضع الاجتماعي المباشر وغير المباشر للأفراد، التي تختلف من صداع في الرأس يأتي نتيجة ارتفاع عدد المنبهات، إلى الأمراض العقلية النفسية التي تؤدي إلى فقدان الصلة بالواقع. ومثلما يشكل مرض ألزهايمر مراحل متطورة من تخبط الأفراد نتيجة واقعهم، يشكل الصداع النصفي حالة مستعصية أخرى تكون أيضاً من الأكثر إنهاكاً للجسد والعقل.
في عام 2016 عانى أكثر من 30% من البالغين في العالم من عمر 18-64 سنة من الصداع النصفي، بحسب منظمة الصحة العالمية. ويختلف الصداع النصفي عن الصداع الذي يصيبنا نتيجة الضغط اليومي في التداعيات الجسدية التي يحدثها. فالصداع النصفي، بأنواعه المختلفة، ذلك الذي يصيب الأفراد عرضياً أو الذي يرافقهم على مدى أيام أو أسابيع، هو صداع يصيب منتصف الوجه (جهة منه وليس الرأس كله). ويترافق مع الغثيان، التقيؤ، حساسية من الضوء والصوت، التعب والإرهاق الجسدي، حركة هضمية بطيئة، عدم وضوح الرؤية، الدوخة، خدر، زيادة في العطش، وعدم القدرة على التركيز. وتختلف عوارض الصداع النصفي بين المرضى، ففي الحالات القصوى للمرض يفقد المريض القدرة على التركيز، وحتى القدرة على التواصل أو الحديث، أما في حالات الخدر يفقد المريض القدرة على الحركة بشكل طبيعي، أو تحديد مواقع الأشياء (الأبعاد) بالنسبة له.
أدوية لا تعالج المرض!
إلى اليوم، سبب الصداع النصفي غير معروف، من يعاني من هذا المرض جميعهم يعلم أنه هناك العديد من الأدوية التي يمكن الاستعانة بها إما بشكل يومي أو عند اشتداد حدة الصداع. تشتمل هذه الأدوية على أدوية للصرع، أو للدم، أو أدوية مضادة للاكتئاب، والتي تسبب العديد من ردات الفعل على مرضى الصداع النصفي. ومن الأسباب المقترحة للمرض هي: العامل الجيني، من خلال طفرة وراثية في عدد من الجينات (حدد 20 منها إلى الآن)، النظام الغذائي، عدم انتظام وقت النوم أو مدته، الضغط، الاكتئاب، أو تغير الطقس. يبرر بعض الباحثيين في الصداع النصفي المرض إلى حساسية الدماغ المرتفعة عند المرضى. هذا لكون النواقل العصبية المرتبطة بالصداع النصفي مرتبطة أيضاً بجهاز المناعة، فعندما تفرز في الدماغ، تحدث التهاباً وانخفاضاً بنسبة الأوكسيجين في الدماغ بالإضافة إلى أنها ترسل الموجات الكهربائية إلى باقي أعضاء الجسد، فينتج عن ذلك العوارض التي ذكرنا سابقاً. ولكن حتى مع العلم بارتباط النواقل العصبية بالصداع النصفي ما هو غير معروف هو: لماذا يتم إفراز هذه النواقل في هذه الحالة بالتحديد.
تقوم بعض شركات الأدوية البريطانية والأمريكية مؤخراً بتجريب دواء جديد يعتمد على استهداف ناقل عصبي مرتبط بالصداع النصفي. يوصف الدواء على أنه الحل الأنسب لمرضى الصداع النصفي، تكلفته لم تحدد حالياً، ولكن التقدير أن التكلفة ستكون بآلاف عدة من الدولارات سنوياً، أي: أنها مرتفعة جداً.
يمكن للصداع النصفي أن يفسر لنا عوامل عدة من آلية ارتباط جسدنا بالمحيط والضغوطات التي يعاني منها، إما بشكل يومي أو مرحلي. فمن الأساليب التي ينصح باتباعها عند من يعاني من الصداع النصفي هي: الأكل بطريقة جدية ومنتظمة، شرب الماء بانتظام، النوم بانتظام ولمدة كافية، الراحة، وتقليل عدد المنبهات في نظامنا الغذائي، أو الحياتي الجسدي. والاستغناء عن الأسباب الفردية (المنبهات) التي تؤدي إلى ارتفاع شدة الصداع عندنا. هذه الاساليب جميعها مفيدة حتى لمن لا يعاني من الصداع النصفي، ولكن إذا أخذنا الأسباب المعروفة للصداع النصفي من العامل الوراثي، والنظام الغذائي، والضغط النفسي والجسدي، والتغير في الطقس سنجد أن الصداع النصفي يصف تمركز الضغط في مكان معين من الجسد.
ذكرنا رايش في العديد من المقالات السابقة، لكون نظريته تستطيع الإجابة عن سبب تموضع المرض في مكان معين من الجسد. إذا استندنا إلى نظرية رايش نستخلص: أنّ الصداع النصفي هو: نتيجة تموضع الضغط والقلق الناتج عن عارض أو عوارض اجتماعية في الرأس. ولكون الرأس مرتبطاً بأعضاء الجسد كافة، عوارض الصداع النصفي كثيرة وتختلف من مريض لآخر. إذا أخذنا الأساليب التي تساعد في التخفيف من الصداع النصفي المذكورة سابقاً وأهمها: الراحة والنوم بانتظام، والتخفيف من المنبهات التي تزعجنا هذه المنبهات تختلف بين الأفراد، وهي تبدأ من المنبهات الموجودة في الأكل الى الضوء والصوت، إلى علاقتنا بالأفراد ووجودهم، أو وجودنا بينهم، فالمنبهات التي ترفع نسبة القلق لدينا اجتماعياً مثل: القلق من نتيجة امتحان أو القلق العاطفي سيؤثر سلباً على الدماغ، وفي حالة الصداع النصفي سسيتمركز هذا القلق في الرأس(الدماغ).
إذاً، المطلوب كحلٍ هو: عزلة الفرد عن المجتمع عامة، فمصادر القلق الاجتماعية ليست خياراً فردياً بل هي عناصر موضوعية في النظام الاجتماعي وخصوصاً في مراحل الاضطراب السياسي الاقتصادي الاجتماعي، مجتمع اللاستقرار والاستغلال والقهر، الخوف على المصير الخاص والعام. وإذا انقلبت المعادلة بالمعنى السياسي من الطب السائد إلى نظرة اجتماعية تغييرية، يكمن «العلاج» للصداع النصفي أو لغيره من الأمراض هو «علاج» اجتماعي شامل، هو تغيير أسباب المرض لا النتائج، أي: الانتقال إلى مجتمعٍ عادلٍ مستقر يؤمن حياة أقل ضغطاً وتوليداً للقلق، بل العكس حياة تضع سلامة الفرد العقلية والجسدية في مركز اهتمامها وقضيتها. الصرع، الصداع، والاضطرابات النفسية والعقلية هي أمراض هذا النظام العفن والمهترئ، وأكثر من ذلك، طب سائد يبني على عذابات الناس وتعبهم.