الحموضة والاعتلالات النفسية

الحموضة والاعتلالات النفسية

تطرح مستويات الحموضة العالية لدى مرضى الفصام وثنائية القطب، تساؤلات بخصوص طرق العلاج، في هذا الصدد، تعرض «قاسيون» قراءة في مقالٍ للباحثة، ديانا كون، جرى نشره مؤخراً على صفحات موقع «scientific» بالعنوان ذاته.

إعداد: هاجر تمام

تكون أدمغتنا في بعض الأحيان متوقفة على الحمض بشكل حرفي. حيث يشكّل ثاني أوكسيد الكربون - الذي يتم إطلاقه باستمرار حين يفكك الدماغ السكريات لإنتاج الطاقة- مصدراً رئيساً لهذه الزيادة المؤقتة. وتتحوّل هذه الطاقة في وقت لاحق إلى حمض. ومع ذلك، فإنّ الكيمياء في الدماغ البشري تميل لتبقى حياديّة نسبياً. لأنّ العمليات النموذجية - بما في ذلك التنفس الذي يخرج ثاني أوكسيد الكربون- تساعد على الحفاظ على الوضع القائم. وتبقى أيّة زيادة حادّة في الحموضة دون ملاحظة.
لكنّ مجموعة متزايدة من الأبحاث اقترحت: أنّ الاختلال في هذا التوازن، ولو بشكل طفيف، قد يرتبط ببعض الحالات النفسيّة لدى بعض الأشخاص المصابين بحالات نفسية معينة، بما في ذلك اعتلال الهلع. وتوفّر النتائج التي اكتشفت هذا الشهر أدلّة إضافية على حقيقية هذه الروابط، وتشير إلى أنّها قد تمتد إلى اعتلال الفصام واعتلال ثنائي القطب.

العلاقة وثيقة
كانت هنالك تلميحات في وقت سابق أنّ الحال كما يلي: كشفت الدراسات بعد الوفاة التي أُجريت على عشرات من الأدمغة البشرية انخفاضاً في الأس الهيدروجيني (مستويات حموضة أعلى) لدى المرضى الذين عانوا من الفصام واضطراب ثنائية القطب. لقد وجدت عدّة دراسات في العقود القليلة الماضية، أنّه عندما يتعرض المصابون باضطرابات الهلع إلى الهواء الذي يحوي تركيزاً أعلى لثاني أكسيد الكربون، وهو ما يمكن أن يتحد مع الماء الموجود في الجسم لتشكيل حمض الكربونيك، هم أكثر عرضة للمرور في نوبات ذعر من الناس الأصحاء. وقد كشفت أبحاث أخرى عن إنتاج أدمغة المصابين باضطرابات الهلع لمستويات مرتفعة من اللاكتات «Lactate»، وهو مصدر حمضي للوقود الذي ينتجه ويستهلكه الدماغ الجائع للطاقة.
لكن على الرغم من تلك القرائن الأوليّة، فقد واصل الباحثون التأمل فيما إن كانت الحموضة الزائدة التي وجدت لدى مرضى الفصام وثنائي القطب، لها علاقة حقيقية بالاضطراب، أم أنّها ناجمة عن عوامل أخرى مثل: استخدام الشخص لمضادات الذهان، أو حالات طرأت قبل الوفاة مباشرة. على سبيل المثال: يشرح وليام ريغنولد، الطبيب النفسي والبروفسور في جامعة ميريلاند: «إن كنت تموت ببطء، فستمرّ بك فترة أطول تنخفض فيها مستويات الأوكسجين، وهذا من شأنه أن يغيّر الأيض لديك». ويشرح أنّ الجسم يعتمد أثناء فترة الموت الطويل بشكل أكبر على مسار أكسجين مستقل من أجل إنتاج الطاقة. وقد يؤدي هذا إلى رفع مستويات اللاكتات بشكل أكبر من المعتاد، ممّا يؤدي إلى رفع درجة الحموضة.

التجارب على الفئران
هذه الأسئلة هي السبب في قرار عالم الأعصاب بجامعة فوجيتا الطبيّة في اليابان، تسويوشي مياكاوا وزملائه، أن ينقّوا عشرة مجموعات من البيانات المأخوذة من أدمغة أكثر من أربعمائة مريض متوفى ممّن كانوا يعانون من الفصام أو ثنائيّة القطب. لم تكلّف بعض الدراسات السابقة نفسها عناء التركيز على الحموضة، لأنّ الباحثين افترضوا أنّ انخفاض الأس الهيدروجيني كان ناجماً عن عوامل خارجية كما يقول مياكاوا. لقد حاول بأيّ حال هو وفريقه أثناء تحليلهم الجديد أن يختبروا كلّ واحدة من النظريات الرائدة بشأن الارتباط بين الحمض والاضطرابات. أولاً: أحصوا عوامل الإرباك المحتملة مثل: تاريخ استخدام الأدوية المضادة للذهان وسنّ الموت. وكما توقعوا، كانت مستويات الرقم الهيدروجيني في الدماغ لدى الأفراد الذين عانوا من الفصام وثنائية القطب أقلّ بكثير ممّا كان عليه لدى الأصحاء. كما فحص الفريق خمسة نماذج من الفئران (قوارض مع طفرات جينيّة مرتبطة بهذه الحالات)، ووجدوا نتائج مماثلة: الرقم الهيدروجيني في أدمغة هذه الفئران (وهي الخاوية تماماً من أيّة عقاقير) كانت أقل بشكل مستمر، ومستويات اللاكتات لديهم أعلى، من الحيوانات الصحيحة التي قورنت بها. بالإضافة إلى أنّ الباحثين قد قتلوا جميع الفئران بذات الطريقة، ممّا يشير إلى عدم إمكان تفسير الاختلافات في الأس الهيدروجيني بناءً على الوقت الذي يستغرقه الموت.
توفّر هذه النتائج التي نشرت هذا الشهر مجتمعة، مجموعة من الأدلّة الأكثر إقناعاً حتّى الآن على كون الصلة بين الحموضة في الدماغ والاضطرابات النفسيّة حقيقية. يوافق ريغنولد، وهو الذي لم يكن مشتركاً في البحث الجديد، على ذلك: «عندما تجمع كلّ هذه البيانات وتستخلص منها أشياء مهمّة إحصائياً، يمكنك هنا أن تقتنع أكثر بأنّ الأس الهيدروجيني المنخفض أمرٌ متأصل في الاضطرابات. أعتقد بأنّ الجديد في هذا البحث هو أنّهم يصفون الأسّ الهيدروجيني المنخفض ويقولون: إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بحدّ ذاته جزءاً من الفيزيولوجيا المرضيّة لهذا الاضطراب، بغض النظر عمّا يسببه».

تغيير التشخيص والعلاج
حتّى مع توضّح أنّ الحموضة في الدماغ قد تكون سمة رئيسة للفصام ولثنائية القطب، فكونها سبباً أو مؤثراً يبقى أمراً مفتوحاً للنقاش. وفقاً لمياكاوا، فإنّ هذه الزيادة في الحموضة يمكن أن تكون ناجمة عن نشاط الخلايا العصبية بشكل أعلى من المعتاد في أدمغة الأشخاص الذين يعانون من هذه الاضطرابات: «الخلايا العصبية أكثر نشاطاً، وهنالك حاجة إلى المزيد من الطاقة، وتوفّر اللاكتات هذه الطاقة». يخبر ريغنولد عن نظرية شهيرة أخرى تقول: إنّ الحموضة الأعلى في دماغ المصابين باضطرابات نفسية عائدٌ لضعضعة في المتقدّرات «mitochondria»، وهي المسؤولة عن توليد الطاقة داخل الخليّة. يوافق ريتشارد مادوك، بروفسور الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا، وهو ممّن لم يشاركوا في البحث الجديد أيضاً، على أنّ كلا الفرضيتين قد تفسران الأمر. ويضيف بأنّ هاتين الفرضيتين «لا تستبعد إحداهما الأخرى». 
وقد كشفت أبحاث مجموعة ويمي بأنّه يمكن لخفض الأسّ الهيدروجيني في الدماغ عن طريق تعديل استنشاق ثاني أكسيد الكربون، أن يثير السلوك المرتبط بالخوف لدى الفئران. لقد وجدوا أيضا بأنّه يمكن لنشاط القنوات الأيونية المستشعرة للحمض، وهي المستقبلات الموجودة عند نقاط الاشتباك العصبي والتقاطعات بين الخلايا العصبية، أن يسهم في النقل المشبكي وفي اللدونة في بعض مناطق الدماغ مثل اللوزة المخيّة «amygdala» التي تعالج العواطف.
وتبقى مدى صلة هذه الاكتشافات بالذين يعانون من اضطرابات الفصام وثنائية القطب غير واضحة، لكنّ الإجابة عن هذه الأسئلة قد تغيّر الطريقة التي يتمّ تشخيص وعلاج الأشخاص الذين يعانون من بعض هذه الاضطرابات. لقد أضاف ويمي بأنّه في الوقت الحالي: «لا يزال هذا المجال غير مستغل في العلاجات».

معلومات إضافية

العدد رقم:
829