العلم الرسمي و«عداء» الإنسان لذاته
محمد المعوش محمد المعوش

العلم الرسمي و«عداء» الإنسان لذاته

الإنسان كذات وكموضوع في آن: شكّل الانسان موضوعاً للبحث العلمي منذ تبلور علمي الاجتماع وعلم النفس خصوصاً. وعامة يمكن تقسيم تطور التيارات في هذين العلمين إلى قسمين، الأول: إلى تيارات ما قبل ماركسية (بالمعنى المنهجي للتحديد، فقد تكون زمنياً قبل إنتاج الماركسية التاريخي، أو ما بعده)، والثاني: التيار الماركسي. 


مُنتَج هذه التيارات هو: بنى نظرية ومفاهيمية، مادية ومثالية، تحاول تأدية وظيفة فهم الإنسان للمجتمع كموضوع «خارجي» عنه، وهي أيضاً تحاول تمكينه من فهم نفسه كموضوع لتفكيره هو بالذات، كموضوع «داخلي» للفكر، حيث الذات هي الموضوع.
إذا كان فهم «الخارجي»-الاجتماعي مشوهاً، غير قادر على وعي قوانين البنية الاجتماعية، أي: انتفاء حرية الفرد أمام الضرورة العمياء، والعجز عن التأثير في تطور المجتمع، فإن الفهم المشوه لـ«الداخلي»(الذات وديناميتها) ، ينتج «خضوعاً» لا واعِ لضرورة الذات وحاجاتها والمعاني التي تحرّكها، مع فارق نوعي، إن التشوه الداخي يعني انقسام الفرد على نفسه.
التيارات النفسية قبل الماركسية باعتمادها على الفلسفات المثالية عامة لم تملِّك الإنسان أدوات فهم ذاته، لسبب مباشر: أنها لم تمكِّنه من فهم واقعه الاجتماعي المُنتج لهذه الذات. هذه التيارات التي لا يزال يعاد إنتاجها باشكال مختلفة اليوم وبضخٍ عالٍ.
مصدر تاريخي آخر لفهم الإنسان
الأدب والثقافة الشعبية: يقول عالم النفس «سيغموند فرويد» بما معناه، أَنه ما توَصَّل إلى مفهوم أو تحليل إلا وكان قد سبقه إليه روائي أو شاعر. حيث تحفل بعض الروايات الكلاسيكية والقصائد والحكايا الشعبية بالعديد من التصورات و«الـتحليلات» التي تقدم تفسيرات حول الإنسان والمعاني والحاجات التي تحرّكه، وبالرغم من كونها ليست علماً «أكاديميا» بالمعنى الفعلي للكلمة، ولكنها نتاج تجربة تاريخية عمليّة وليست «شطحات» تأمليّة.
ضرب الثقافة الشعبية
الرأسمالية والعلم المشوَّه: خلال مرحلة سيادة الرأسمالية، وفي العقود الماضية حيث تدعيم ليبراليتها وثقافة «الفردية»، تم أولاً: الهجوم على مجمل الأفكار التي طالت الإنسان «الواقعي» في الأدب والثقافة عامة، وثانياً: تم ضخ الأفكار الفردية التي لا تسلخ الإنسان عن مجتمعه فقط، بل هي تسلخه عن نفسه. هكذا وضع الإنسان في مواجهة الآخرين ضمن منطق المنافسة «الحرة» وقانون البقاء للأقوى في سوق رأس المال، ووضع أيضاً في عداء مع ذاته، تدفعه ضرورتها في كل اتجاه بلا سبيل، لا هو يدري بماذا هو مدفوع ولا بكيف يجد ضالّته.
هذا العداء الناتج عن التناقض ما بين الفرد ككائن مفكّر، وبين قانون حركة ذاته والمعاني الموضوعية التي تحركها، التي هي موضوع لهذا الفكر. إنه تناقض بين الأيديولوجيا التي تم تعميمها من كل صوب، وخصوصاً عبر النظريات والممارسات العلمية السائدة التي تحاول عبثاً أن تمد الانسان بأدوات معرفية، لفهم قانون حركته «الداخلي» في علاقته بواقعه. هذا التناقض ناتج أساساً عن كون النظريات السائدة لم تقدم أية أداة علمية للأفراد، في تفسير أسئلتهم مثلاً، أو رغباتهم، حاجاتهم المتغيرة، والمعاني الضمنية المحركة لهم، وفهم الأصل الاجتماعي لما يعانونه أولاً: بسبب عدم تحقق هذه المعاني، وثانياً: بسبب عدم تملكهم للحلول العملية في طريق تحققها. هذه الأفكار «العلمية» خلقت في المقابل هوّة ما بين الفرد المفكِّر وما بين ذاته في ضرورتها للوجود، عبر كرامتها وهذا أوضح المعاني، وعبر قيمتها، وهذا معنى أعقد في كيفية تحققه واقعياً في المجتمع.
العلم الرسمي كعلمٍ معادٍ، يقابله كنقيض علم التغيير ووعي الانسان لذاته وواقعه، لكي يلتقي الفكر مع ذاته لا في تضادٍ، بل واعياّ بها ويتقدّمها، لا تفجرّه بضرورتها «العمياء» وليس قامعاً لها بقيود جهله.

العداء للذات
وجه آخر من الاغتراب

العمل الذهني وأدوات الإنتاج الفكري: يعتبر ماركس أن نتاج عمل الإنسان المأجور في الرأسمالية يقف معادياً له ومخضعا له. هذا ما اعتبره ماركس اغتراب الإنسان عن عمله، والتوسع في مفهوم الاغتراب هنا هو أن العمل الفكري ونتاجه أي: الفكر في ذاته يقفان في عداء مع الذات التي هي قوة العمل في البنية الفكرية (إذا ما ماثلناها مع قوة العمل الجسدية)، وهذا يتلاقى مع إشارة الماركسي الشهيد حسن حمدان(مهدي عامل) إلى أن الذات في بنية الفكر تشبه القوى المنتجة في البنية الاجتماعية. هكذا ينتصب الفكر معادياً لذاته مغترباً عنها، كون أدوات إنتاج هذا الفكر(الأيديولوجية) هي «ملك» الفكر السائد وعلمه«الرسمي» وثقافته، في صالح أهداف تعمية الواقع وتأبيده.

معلومات إضافية

العدد رقم:
813