كيف نقرأ الأرقام؟
تقدر نسبة الوفيات - بحسب تقريرين الأول لمنظمة الصحة العالمية والثاني لـ Global Burden of Disease، التي أنشئت بتمويل من مؤوسسة بيل ومانديلا غايتس، وتعمل مع منظمة الصحة العالمية، ومركزها واشنطن – الولايات المتحدة الأمريكية، من الأمراض غير المعدية في منطقتنا ب53% من اجمالي نسبة الوفيات لعام 2010، وتعتبر هذه النسبة مرتفعة مقارنة مع المعدل العالمي للوفيات من هذه الانواع من الامراض. بينما تشكل النسبة الأعلى في كل من الامارات، قطر، واليمن. وتحتل الأمراض نسباً مختلفةً باختلاف البلدان، فمعدل الوفيات من السرطان مرتفعة في لبنان عن غيره من دول المنطقة مثلاً. وتعتبر أمراض مثل: التي تصيب القلب، والرئة، والسرطان، والسكري الأكثر تسبباً للوفيات، مع النسبة الاكبر للأمراض القلبية التي تتخطى نسبة الوفيات جراءها ال25% في جميع الدول لتصل لما فوق ال40% في دول مثل السعودية.
بينما تحتل الاضطرابات النفسية نسبةً أخرى من معدل الوفيات (المباشرة او غير المباشرة)، بحسب التقريرين، لتكون عند النساء ضعف ما عند الرجال، إلا في فلسطين حيث يحتل الاضطراب/القلق والاكتئاب نسبةً متجانسةً بين الجنسين. ولتكون أعلى من المعدل العالمي في جميع دول المنطقة، فيما عدا مصر، ولتحتل فلسطين مجدداً اعلى نسبة في معدل وارتفاع الاضطرابات النفسية. ولقد ارتفع معدل الاضطرابات النفسية في منطقتنا بحوالي 10% منذ 1990 لغاية 2013، بينما ارتفع عالمياً بحوالي 5%. واللافت، أن هذه الفروقات أو الارتفاعات لم تتأثر بها البلدان ذات الدخل المتدني، بل تأثرت بها البلدان ذات الدخل الوسطي والمرتفع. ولقد شكل القلق والاكتئاب أعلى هذه المستويات.
ما الخطير في هذا؟
ارتبطت فكرة الحد من الأمراض وانتشارها بالتطور الذي رافق الصناعة والتكنولوجيا، والذي انعكس بأسلوب حياة «اكثر رفاهيةً» عند البشر. الهدف الذي لم يتحقق مع مرور الزمن، فقد أثبت الأسلوب الأكثر رفاهيةً عجزه عن الحد من الامراض، وأنتج أمراضاً جديدة، كالسرطان الكثير الانتشار، والعديد من الاضطرابات النفسية. فلهذا المعدلات المرتفعة للاضطرابات الجسدية والنفسية في البلدان ذات الدخل المرتفع، قطر والامارات مثلاً، لا تجد تبريره في معادلة: التطور الذي حصل = حياةً صحيةً أفضل. بل بالعكس المعدلات المرتفعة في المنطقة تجد تبريرها في معادلة: النظام + القمع الناتج عنه + الضغط الناتج عنه = تردي في الحياة الصحية. حتى مع هذه المعدلات يبقى المعدل مرتفعاً، لأنه يشكل ارتفاعاً كل عام.
وحتى مع اعتراف منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة التي تحتوي على تقارير موسعة عن الوضع الصحي في معظم بلدان العالم – لعدة أسباب طبعاً، ومع التحفظ على الأرقام الصادرة عن المنظمة والمنظمات الشبيهة بها، ان ارتفاع نسبة الامراض في منطقتنا يعود الى الوضع غير المستقر التي تعيشه المنطقة، ولكنها عاجزة عن تفسير الارتفاع الحاصل في كل من الدول ذات الدخل المرتفع مثل: الإمارات وقطر على سبيل المثال في الامراض الجسدية والنفسية. وعاجزة ايضاً عن ايجاد السبب الرئيسي وراء ارتفاع الاضطرابات النفسية في فلسطين، والتي تقدر عند الأطفال ب50%. مع الآخذ بعين الاعتبار أن هذه التقارير وغيرها الصادرة عن مراكز، مثل: منظمة الصحة العالمية، لا تنظر الى بلداننا من نفس الموقع الذي ننظر نحن به أو من خلاله. فلا ربط بين الأنظمة السياسية التي أدت إلى اغتراب الانسان عن محيطه، القلق الدائم حول الحاضر والمستقبل (ليس فقط من خلال الحروب، والنزاعات، أو احتلال فلسطين، بل ايضاً من المستقبل الطبيعي لكل فرد في الاستقرار). والأنظمة الاجتماعية التي كرست القمع بعدة أوجه، ورفعت من الضغوط الاجتماعية، وهنا مثلاً نجد الاكتئاب والقلق عند النساء ضعف ما هو عند الرجال في جميع الدول، إلا في فلسطين لكونها محتلةً وهذان العاملان مرتبطان بطبيعة النظرة إلى الحاضر والمستقبل.
لا تذكر هذه المراكز أي ربط بين الحروب الدائرة في المنطقة وتأثيرها على الارتفاع في معدل الوفيات من الاضطرابات الجسدية والنفسية. أما الحروب، “الحوادث”، و”حوادث الأمومة” (التي يعنى بها التدني في النظام الصحي في البلد او المشاكل الطبية اثناء الولادة)، فتوضع في خانات من دون المرور على مدى تأثيرها، وتسببها بالاضطرابات الأخرى. ومن دون ذكر التخلف الذي يصيب بلد ما، في قطاعاته كلها، في حالة “عدم الاستقرار الأمني”. وبالطبع لا يمكننا أن ننفي ان النظام الغذائي المشبع بالدهون في دول الخليج العربي، الذي يؤدي إلى السمنة الزائدة، هو أحد أسباب ارتفاع معدل الوفيات جراء الأمراض القلبية.
وما يغيب عن قصد هو مدى تأثير العمل بأسلوبه الاستغلالي القائم، في قطاعاته كافة أيضاً، على العوامل النفسية والجسدية المرضية. والضغط الذي ينتج عن اسلوب العمل، على العاملين، في اي قطاع عملوا، جراء الهيكلية الاستغلالية الذي نشأ العمل عليه. فلهذا تبدو معدلات أمراض القلب، والاضطرابات النفسية (خاصة القلق والاكتئاب) مرتفعةً في بلدان كانت تتمتع باستقرار اقتصادي في الفترة السابقة.
مما لا شك فيه، أنّ نسبة الاضطرابات في منطقتنا مرتفعةٌ، وأحد الأسباب هو: الاستنزاف الذي يستنزفه المواطن يومياً فقط للقدرة على المتابعة، والضغوط اليومية التي تنشأ من المجهول القادم في المستقبل. الخطوات الضرورية هي: الاعتراف بضرورة إيجاد حلول حقيقة لهذه الاضطرابات، من خلال تغيير نمط العيش، الذي يبدو مستحيلاً، إن لم يتم إيقاف الحروب، احدى الأسباب الرئيسة في اضطراباتنا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 808