الدلالات البصرية
منذ أن دخلت السيميولوجيا حيز النقد الأدبي، أصبحت الصورة مجالا خصباً للدراسات التي تدعي كلها الانتماء إلى علم الدلالة. وقد أثار هذا التداخل بين مختلف مناهج العلوم الإنسانية أسئلة عديدة في البداية، قبل أن تصبح السيميولوجيا علما في حاجة ماسة إلى هذه العلوم جميعها برمتها. إن بعض هذه الأسئلة هي التي تنصب عليها قراءتنا في بعض مناهج سيميولوجيا الصورة.
اللسانيات
وسيميولوجيا الصورة:
لقد حظي موضوع العلاقة بين السيميولوجيا واللسانيات بجدل واسع. وبقدر ما أثارت هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة ذات القيمة المعرفية والعلمية وفسحت المجال واسعاً للمزيد من تحديد كل منهما ضمن حقول العلوم الإنسانية، بقدر ما أضفت على بعض هذه البحوث أحياناً طابع المزايدات والجدالات العقيمة. وهكذا أصبح الصراع بين السيميولوجي واللساني يتمحور حول ما إذا لم تكن سيميولجيا الصورة سوى نقل حرفي مباشر لمفاهيم اللسانيات وتطبيقها على النماذج البصرية.
أيقونية الصورة
صحيح أن ما يميز الصورة البصرية، عن باقي الأنظمة الدالة، ومنها اللغة خاصة، هو حالتها «التماثلية» أو أيقونيتها، أي شبهها الحسي العام للموضوع الذي تمثله. فصورة القط تشبه القط فعلا، بينما لا يشبه القط في شيء العنصر الصوتي/قط/أو العنصر المكتوب «قط».
غير أن الصورة ليست تماثلية سوى في شكلها العام، وهي إضافة إلى ذلك تحتوي على مجموعة من العلاقات الاعتباطية بموضوعها.
إن أهمية المماثلة تتجسد في كونها وسيلة لتحويل الرموز codes، فعن طريق تشابه الصورة لموضوعها «الواقعي» تقوم إمكانية قراءة أو فك رموز الصورة التي تستفيد هي نفسها بالرموز التي تدخل في قراءة الموضوع نفسه.
إلا أن هذه الأهمية تختلف من صورة إلى أخرى. ففي بعض الأشكال الأيقونية كالاتجاهات المعاصرة في الفنون التشكيلية، قد لا تفيدنا خاصية المماثلة بأية قيمة تذكر. وذلك راجع إلى غيابها إطلاقا من بعض الصور أو الرسوم، مما يضطر الدارس إلى البحث عن سبل أخرى لفهم الصورة مستنداً في ذلك مثلاً إلى طبيعتها الرمزية (أو الاعتباطية). وهذا يؤدي بالضرورة إلى الخروج من الحيز المطلق للصورة، لإقامة نوع من التواصل مع أنظمة دالة أخرى وفي مقدمتها اللغة، لما يكتسيها هي أيضاً من طباع اعتباطي.
ورغم انفراد الصورة بمجموعة من الخصائص التي تجعلها تدخل طبيعياً ضمن الحقول التطبيقية للسيميولوجيا البصرية، فإنها لا تشكل امبراطورية مستقلة، أي عالماً منغلقاً لا يقيم أدنى تواصل مع ما يحيط به. إن الصور -مثل الكلمات ومثل ما تبقى من الأشياء كلها- لم يكن في إمكانها أن تتجنب «الارتماء» في لعبة المعنى، أو في ألف حركة تأتي لتعالج الدلالة في قلب المجتمعات. إن سيميولوجيا الصورة لا تصنع نفسها خارج سيميولوجيا عامة.
تشتغل سيميولوجيا الصورة جنباً إلى جنب مع سيميولوجيا الموضوعات اللسانية (وأحيانا في تقاطع معها، لأن هناك رسائل عدة مختلطة: لا يتعلق الأمر فقط بالصورة التي يحمل محتواها الظاهر إشارات كتابية، بل أيضاً بالبنيات اللغوية التي تشتغل ضمنياً في الصورة نفسها، كما يتعلق الأمر كذلك بالصور البصرية التي تساهم في تبليغ بنيات اللغة).
الأيقونات المنطقية
إلى جانب مشكلة الأيقونات المنطقية، ومنها بالتحديد الأيقونات البصرية، باستطاعة الخطاب البصري ألا يكون تماثلياً. لأن المماثلة البصرية تخضع لتغيرات كمية، كمسألة «درجات الأيقنة» عند بعض المشتغلين بالحقل السيميولوجي، ومشكلة النمذجة بمستوياتها المختلفة.
كما يخضع الخطاب البصري أيضاً لتغيرات كيفية. فمفهوم التشابه يختلف من ثقافة إلى أخرى. وفي الثقافة الواحدة نعثر على مجموعة من محاور التشابه، لأن تشابه الشيئين يتم دائماً في علاقتهما برابط ما. ولذلك، فإن التشابه يشكل في حد ذاته نظاماً أو مجموعة من الأنظمة.
إن الخطاب البصري يستطيع أن يشكل درجة قوية من الأيقنة دون أن يكف عن احتواء علائق منطقية نسقية غير أيقونية (لأن بعضها اعتباطي) رغم أن مجال بروزها هو الأيقون.
إن مجموعة من الخطابات البصرية التي نعتبرها عادة «بصرية» هي في الحقيقة نصوص مختلطة. من ذلك مثلا: السينما الناطقة والصور المرفقة بالكتابة.
هناك مجموعة من الخطابات البصرية التي ليست مختلطة في معنى معين، ولكنها مختلطة في بنياتها، فالصورة لا تملك سنناً خاصة بها لوحدها ويقوم بتغييرها كلياً، بل يتم تبليغ رسالتها بواسطة أنظمة مختلفة، بعضها أيقوني محض وبعضها يظهر أيضاً في خطابات غير بصرية.
تعارض اختزالي
إن التعارض القوي بين «البصري» و«اللغوي» اختزالي جداً، لأنه يسقط من حسابه حالات التقاطع والتطابق والتركيب كلها. وهو تعارض جزئي كذلك لأنه يهمل الدلالات كلها التي ليست لسانية محضة ولا بصرية محضة.
إن استعانة الدراسات الأيقونية ببعض المفاهيم النظرية التي تخص الدلالة والتواصل والإبلاغ لا يجب اعتبارها تطفلاً على المفاهيم اللسانية، التي يعتقد بعض المدافعين عن «الحصن» البصري أنها غريبة عن السيميولوجيا. صحيح أن هناك بعض المفاهيم اللسانية لا يسمح لها حقلها الخاص بأن تكون عرضة للتصدير إلى حقول أخرى، ولكن هناك مفاهيم أخرى تدخل ضمن الجهاز المنهجي للسيميولوجيا، وكل تحليل أيقوني يريد تجاوز هذه المفاهيم أو إسقاطها من مقارباته لا يستطيع أن يكون دراسة للدلالة.
التفكير في الصورة
إن التفكير في الصورة هو في غالب الأحيان إنتاج لا للصور بل للغة(الكلمات). ومن هذا المنظور، فإن اللغة تعد بمثابة لغة واصفة بالنسبة للغات (كموضوع) المختلفة وحتى غير اللسانية منها.
ولهذا كله، فإن المماثلة الأيقونية لا يمكن أن تشكل بالنسبة للتفكير في الصورة غير نقطة انطلاق. فما هو أبعد من المماثلة هو نقطة البداية بالنسبة للسيميولوجي، وإلا فلن يبقى هناك ما نقوله عن الصورة سوى أنها مشابهة لموضوعها.