محاذير ومسوغات عمارة الأبنية العالية
تحت عنوان «محاذير ومسوغات عمارة الأبنية العالية وخصوصيتها في الدول النامية» قدم الدكتور محمد كيخيا بحثه في مجلة جامعة تشرين للبحوث الهندسية.
للأبنية العالية أثر واضح على العمارة المعاصرة، كما أنها أثارت الكثير من الجدل بين أوساط الشرائح المختلفة من مختصين -وفي مقدمتهم المعماريين والمخططين- وغير المختصين من سكان ومواطنين عاديين. كما شغلت الجهات الإدارية مثلما شغلت الرأي العام في كثير من الحالات وتحديداً في المدن ذات الطابع الخاص أو تلك ذات العراقة والهوية المعمارية .ووفق معطيات العصر، تشكل الأبنية العالية على صعيد دول العالم بشكل عام (بما فيها الدول النامية)، واقعاً لا يمكن نكرانه أو تجاهله، كما أنها في الوقت ذاته لا يمكن اعتبارها قدراً محتماً لا يمكن تجنبه أو تجاوزه، فمعطيات عديدة، اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو تقنية... مجتمعة أو منفردة، تلعب الدور الأكبر في قرار تبني مثل هذا الخيار أو تجنبه. بحثنا هنا يتعرض لهذا الموضوع المعماري الهام وفق مفاهيم ومعطيات العصر، حيث يستعرض أهم المفاهيم والمبادئ التي ترتبط به، ويستعرض بعض أهم التجارب في هذا المجال ويتناول من خلالها أهم السلبيات والإيجابيات التي أحاطت بهذا الموضوع، خاصة في الدول النامية.
أهم مبررات انتشار الأبنية العالية
ارتبط انتشار الأبنية العالية في مراحل التاريخ المختلفة بجوانب عدة، منها اجتماعية تتعلق بحب التميز والسلطة على مستوى الأفراد، ومنها دينية عقائدية وما رافقهما من محاولات الظهور والتميز الاقتصادي والعلمي على مستوى الجماعات والدول. وكذلك في العصر الحديث، ورغم أهمية الجانب الاقتصادي بشكله الرقمي المجرد (التكاليف والاستثمار والمردود)، إلا أن دوره لم ينف دور تلك المظاهر، خاصةً وأنه من الثابت أن المساحة التي يؤمنها مبنى برجي واحد يمكن أن تحقق بأقل كلفة من خلال بنائين كل منهما له نصف ارتفاع ذلك البرج، وبالتالي فإن بناء الأبنية الشاهقة لم يكن في كثير من الأحيان من دافع الاستثمار الأعلى للأراضي، بل جاء في كثير من الأحيان بدافع، الوصول إلى المظاهر الاقتصادية السياسية وفي حالات أقل لاحتياجات وظيفية استثمارية.
العوامل الفاعلة في نشأة الأبنية العالية في العصر الحديث
لإن كانت مسيرة البشرية لم تخل يوماً من رغبة الإنسان في العلو والارتفاع، ورغم أن الأسباب التاريخية المذكورة سابقاً لا يزال لها دور لا يستهان به وراء ظهور هذا النوع من الأبنية، إلا أن الأبنية العالية في نشأتها المعاصرة سيطر عليها الجانب المادي، حيث شجع على ذلك أسباب و عوامل عدة نذكر من أهمها:
رأسمالية الشركات ودور السلطة والمال
تعد رأسمالية الشركات أحد أهم العوامل المساعدة على ظهور وانتشار الأبنية العالية، فبالإضافة إلى ما حملته تلك الأبنية من رمزية واضحة للسلطة والمال، كانت الحاجة قد تصاعدت إلى فراغات مكاتب ضمن كتلة واحدة لتلبي العلاقات البينية المترابطة فيما بينها، كما برزت حاجة الشركات الكبيرة المتضمنة على عدة مئات من الموظفين لملئ تلك الفراغات، فشكلا النوعان كلاهما بمكوناتهما الطلب الذي أثّر في حجم المباني المكتبية.
ازدياد قيمة العقارات
شهدت العقارات (المقاسم المعدة للبناء في مراكز المدن الكبيرة) ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، وترافق ازدياد الطلب مع ظهور الشركات الرأسمالية الضخمة والزيادة الكبيرة في متطلباتها من فراغات وأماكن العمل مما استدعى زيادة عامل استثمار تلك العقارات بزيادة أعداد الطوابق المعدة لإشغالها بمكاتب تلك الشركات.
تطور الإنشاء وتقنيات البناء
لقد ساعد في ظهور الأبنية العالية في العصر الحديث اكتشاف الفولاذ بخواصه المعاصرة، ففي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ومع تقدم الدراسات والأبحاث المتعلقة بالهندسة الإنشائية فيما يتعلق بتحليل وحساب الإجهادات والأحمال. كما ساهمت العديد من المكتشفات والابتكارات، والتي مهما صغرت أو بدت غير مرتبطة بشكل مباشر بهذا النوع من الأبنية، في لعب دور في بلورتها وتجسيدها على حيز الواقع، فعلى سبيل المثال: لعب تطوير القوس الكهربائي الفاعل في عملية اللحام وغيره الكثير من المخترعات والاكتشافات دوراً رئيسياً وهاماً في صياغة القرار الإنشائي، الذي ساهم في ظهور هذا النوع من الأبنية، وشجع على تطويرها وانتشارها.
ومهما كانت وجهات النظر المتباينة، فإن هناك ثوابت تتعلق بالأبنية العالية تُلخص بالنقاط الآتية:
- التكاليف المرتفعة الإنشائية والتشغيلية للأبنية العالية، وجزء منها يتأتى من خلال السعي لجعلها مقاومة للزلازل والحريق.
-الاستهلاك المضاعف للطاقة حيث دلت الدراسات على تضاعف استهلاك الطاقة في الأبنية العالية إذا ما قورنت بما يعادلها من حيث الحجم والمساحة من الأبنية المنخفضة.
- هي أكثر برودة شتاء وأكثر سخونة صيفاً، ويزيد من صعوبة الأمر صعوبة استعمال كاسرات الشمس خوفاً من تطايرها مع الرياح.
– تنتهك حقوق التشميس الخاصة بما يجاورها من أبنية منخفضة، وما يترتب على ذلك من تكاليف للإنارة صناعية وتدفئة بسبب حجبها لأشعة الشمس.
-زيادة متطلباتها من الإنارة الصناعية نتيجة العمق التصميمي الزائد عن 12م، والمتناسب مع حجمها.
-زيادة متطلبات الطوابق السفلية منها الإنارة الصناعية في مناطق تجمع وتجاور ذلك النوع من الأبنية.
-تزيد من سرعة الرياح عند منسوب الشوارع المحيطة بها بحدود %12 وهذه الإشكالية مرشحة للزيادة مع ازدياد ارتفاع حرارة الأرض.
-بينت العديد من الدراسات أنه لو أن برجي مركز التجارة العالمي قد صمما بالقدر الكاف من أدراج النجاة، فلن يبقى هناك مساحات مكتبية كافية لجعلها مجدية تجارياً.
- المحافظة على الضغط الموجب لأدراج النجاة صعب بسبب عدد الأبواب التي تفتح عليه.
-من خلال الرصد والمراقبة، القناعة تزداد يوماً بعد يوم أن كل شخص يصادف وجوده في طوابق أعلى من طابق الحريق في الأبنية العالية هو بحكم الميت.
-أعمال النظافة وصيانة الواجهات لأغلب النماذج السائدة من الأبنية العالية تزداد صعوبة يوماً بعد يوم بسبب إحجام شركات التأمين عن تغطية الحوادث في مواسم معينة من العام بسبب ازدياد سرعة الرياح المرتبط بظاهرة ارتفاع حرارة الأرض.
خصوصية الجدلية في الدول النامية
إن الحيثيات الظرفية للدول النامية تفرض جدلية لا تقل أهميةً عن تلك التي تدور في الدول المتقدمة، وغالباً ما كان المحرض وراء هذه الجدلية التساؤلات الآتية:
-أين الجانب الإنساني في هذه الأبنية؟
-أين يمكن توضيع مثل هذه الأبنية في المدن بشكل عام، وفي المدن التاريخية بشكل خاص؟ وكيف يمكن أن تنسجم مع النسيج القديم؟