التنوع البقعي من مميزات الطبيعة والبشر في المنطقة الاختلافات في الجماعات والأنواع والمجتمعات

التنوع البقعي من مميزات الطبيعة والبشر في المنطقة الاختلافات في الجماعات والأنواع والمجتمعات

أحد «الثوابت» الموجودة في  أرجاء حوض المتوسط كلها هي درجة التغايرية البيئية الاستثنائية في مناطق المتوسط ومناظره الطبيعية، أي تكون المناظر الطبيعية في المتوسط ذات نمط رقعي وذلك تبعاً لعدّة مقاييس مكانية، يساعد هذا الأمر، عبر زمن تطوري، على تسهيل ودعم آليات متعددة لتكيّف الجماعات، مثل التمايز المحلّي، ومرونة النمط الشكلي، والآليات الدقيقة في اختيار الموائل لدى الحيوانات. بالإضافة إلى كل ذلك نجد النسبة العالية للتوطن لدى مجموعات عدّة من النباتات والحيوانات، وبروز توليفات نوعية خصوصية بالموائل، الأمر الذي يضيف قيمة إلى تغاير المجموعات الأحيائية في المنطقة المتوسطية.    

 

لا يجب علينا أن ننظر إلى الجماعات والمجتمعات كوحدات مستقلّة بحد ذاتها، لدى دراسة المجموعة الأحيائية في مثل هذه البيئة المكانية والزمنية ذات الطبيعة الرقعية، ولكن يتوجب علينا أن نعاملها كوحدات متفاعلة فيما بينها، تتطور ضمن منظر طبيعي لجماعات ومجتمعات أخرى. وبالفعل، لقد كان إدراك حقيقة أنّه توجد للحركيّة المناطقية أثراً مميزاً على الآليات البيئية والتطوريّة عند مستويات تراتبية عديدة، من بينها مستويات الأنواع والجماعات، دوراً مهمّاً في تطوّر الحقل البيئي خلال العقود القليلة الماضية. 

الفسيفساء المتحركة

وبدراسة بعض آليات التمايز التي تحدث خلال زمن تطوّري في المنطقة المتوسطيّة على مستوى الأنواع والجماعات والمجتمعات، ضمن سياق «الفسيفساء المتحركة» للموائل، فإنّ الانقطاعية الجغرافية في الحوض والتي تُعزا لكثرة وجود الجزر وأشباه الجزر، ودزينة السلاسل الجبلية التي تقع على مقربة من شاطئ البحر، هذا بالإضافة إلى البنية عالية التقطّع للمناظر الطبيعية كلها تقريبا،ً والتي تقع ما بين الجبال والسواحل، قد أثرت جميعها على الآليات التطوّرية والبيئية في المنطقة. يوجد هناك أيضاً انقطاع تاريخي جليّ بين نصفي الحوض الشرقي والغربي. يظهر هذا الأمر من خلال وجود أزواج عدّة من الأنواع الاستبدالية. ونجد بضعة أمثلة على اختلافات النمط الوراثي والتي تسمح للأحياء بالتكيف مع الظروف المحلية لبيئة متغايرة، بالإضافة إلى ظاهرة مرونة النمط الشكلي حيث يمكن لنمط وراثي واحد أن يعبر عن نفسه من خلال أنماط شكلية عدة، مختلفة وذلك عبر مجال من البيئات. والتباين الوراثي والمظهري كردّ على تغايرية الموائل والمناظر الطبيعية، بالإضافة إلى التأثيرات الموسمية ودرجة تأثير ظاهرة الهجرة على الطيور، وهي إحدى مجموعات أحياء المتوسط التي أجريت عليها الكثير من الدراسات. 

أنماط الاستبدالية بين الشرق والغرب

لقد تمّ التعرف على عدد مرموق من أزواج الأنواع الاستبدالية بين الشرق والغرب، من ضمن أجناس الأشجار السائدة في منطقة المتوسط، كمثال الصنوبر الحلبي في الغرب والصنوبر البروتي في الشرق. يتواجد هذان النوعان سويّةً فقط في بعض أجزاء اليونان وتركيا ولبنان حيث يمكن لهما أن ينتجا هجن طبيعية. وبشكل مماثل يُستبدل العرعر الإسباني (Juniperus thurifera) في غرب المتوسط بالعرعر الإغريقي في الشرق.

ولدى أنواع السنديان دائم الخضرة، نجد أنّ السنديان الأخضر السائد في الغرب يتم استبداله بالسنديان القليبريني (Quercus calliprinos) الذي يسود في النصف الشرقي للحوض. يجب علينا أن نتذكر أيضاً احتمال وجود دور تاريخي للبشر في نشر الأنواع، كما هو الحال أيضاً بالنسبة للعديد من الأنواع المهمة اقتصادياً الموجودة في الحوض. 

نتائج التباين الوراثي 

لعملية اصطفاء البشر للسنديان

بمقارنة العديد من المواقع الوراثية (loci) على كروموزومات أشجار السنديان الفليني والسنديان الأخضر الموجودة ضمن جماعة مختلطة، أظهر الباحثون أن الأنماط الوراثية للسنديان الفليني تتجمع بانتظام، بينما تكون الأنماط الوراثية الخاصة بالسنديان الأخضر متفرقة ولا تُظهر إلا نسبة قليلة من الشبه فيما بينها. ما نستطيع أن نستنتجه بوضوح من خلال هذه الأنماط هو أنها لا تكون ناتجة عن ضغط اختيار الموائل أو عن التكيّف بواسطة الأنماط البيئية لدى الأنواع، ولكنها على الأرجح تكون متعلقة بآليات الاصطفاء التي طبقها البشر. فبينما كان قد تمّ رعاية السنديان الأخضر من قبل البشر في  أرجاء مجال انتشاره الطبيعي جميعها على مدى ألفيات عدّة، لم يخضع لأية عملية اصطفاء خصوصية من أجل إظهار صفة معينة (فيما عدا بعض الحالات المعزولة في وسط إسبانيا حيث يعتبر كشجرة فاكهة، وقد تم اختيار الأشجار حسب درجة حلاوة البلوط الذي تنتجه والذي يستخدم في إطعام الخنازير). وعلى النقيض من هذا، أُخضع السنديان الفليني لعملية اصطفاء مستمرّة من أجل تحسين طبقة القلف الخارجية ذات الفائدة العالية، حيثما وجدت هذه الشجرة في غرب المتوسط. ولذلك لا يوجد هناك تباين وراثي كبير لدى هذا النوع. تمّ أيضاً اقتراح عدة فرضيات بديلة، كالتوسع الأخير انطلاقا من ملاذات الفترة الجليدية وبالتالي قصر الوقت المتوفر من أجل حدوث عملية التمايز، من أجل شرح سبب التباين الوراثي المنخفض للسنديان الفليني. 

ويكون الوضع أكثر تعقيداً بالنسبة لأنواع السنديان المتوسطي متساقط الأوراق، مع وجود سلسلة كبيرة من الأنواع الاستبدالية والتي سنقوم بوصفها لاحقاً ضمن هذا الفصل. تحدث أيضاً أنماط مشابهة في الأنواع النباتية النفضية، وكمثال على ذلك لدينا البطم التربنتي في الغرب، و«قريبه» الشرقي البطم الفلسطيني (Pistacia palaestina)، والذي يكون نوعاً مشاركاً للسنديان القليبريني (Q. calliprinos) في سيادة نطاق الحياة المتوسطي الأوسط، تماماً كما هو الأمر في السيادة المشتركة بين البطم التربنتي والسنديان الأخضر للطابق نفسه في الأجزاء الغربية والوسطى من الحوض. 

انعزال المجموعات الأحيائية

هناك أمثلة منتشرة عن الأزواج الاستبدالية لدى الحيوانات. تضم لدى الطير الأبلق أسود الأذن في الغرب والأبلق الأبقع (Oenanthe pleschanka) في الشرق، وقانص بندق نوماير الصخري (Sitta neumayer) في الغرب وقانص البندق الصخري الشرقي (Sitta tephronta) في الشرق، الشّاهين في الشمال والشّاهين المغربي (Falco pelegrinoides) في الجنوب. تدعم العديد من الأمثلة الأخرى وجهة النظر القائلة أن آليات الإنتواع غيرية الموطن والتي حدثت من خلال الاستبدالية، كانت بفضل انعزال المجموعات الأحيائية على مدى عصور عدّة في الماضي، وخاصةً في الجزء الشرقي من الحوض. تشير إمكانية حدوث التهجين بين الأنواع في بعض من هذه الأمثلة على أنها ذات صلة قريبة وعلى أنها قد تشعّبت حديثاً عن سلف مشترك.