تجارب مؤلمة في استغلال الصدمات

تجارب مؤلمة في استغلال الصدمات

تتناول نعومي كلاين المفكرة والكاتبة الكندية في كتابها «عقيدة الصدمة» الأسس النظرية وتاريخ التطبيقات العملية لسياسة الاستغلال الأقصى للصدمات التي تتعرض لها الشعوب سواء كانت هذه الصدمات بفعل الكوارث الطبيعية (تسونامي ونيو أورليانز) أو مفتعلة (انقلابات، حروب، غزو، تعذيب) هذه السياسة التي ولدت في كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو على يد المفكر الاقتصادي ملتون فريدمان وتبنتها الإدارة الأمريكية على مدى السنوات ال 35 الماضية. تعرض المؤلفة للتجارب المؤلمة التي أخضعت لها الشعوب من أجل تحقيق مصالح طبقة النخبة الرأسمالية المتحكمة بمفاتيح الثروة ابتداءً من الانقلاب الذي قاده بينوشيه عام 1973 في تشيلي بدعم من وكالة الاستخبارات الأمريكية ضد حكومة سلفادور أليندي المنتخبة، والذي جرى في 11 سبتمبر للمفارقة، وانتهاء بالاستغلال الفاحش لمواطني نيو أورليانز بعد كاترينا فضلاً عن الممارسات المفرطة في الظلم والوحشية والفساد التي شهدها العالم أجمع في العراق.

جميع هذه الأحداث لم تكن عشوائية ولكنها كانت ثمرة منهج مؤصل وموثق في شيكاغو يؤمن بأن النخبة الاجتماعية التي تقبض على الثروة هي وحدها المؤهلة لدفع عجلة النمو الاقتصادي، وأن جميع العراقيل التي من شأنها أن تعوق مسيرة هؤلاء يجب أن تزال، ولو كانت هذه العوائق تتمثل في حق المواطن العادي أن يعيش حياة كريمة تتوفر له فيها مقومات العيش الكريم الأساسية.
أبو غريب وغوانتانامو
 وتقوم المؤلفة في ثنايا الكتاب بربط الأحداث والممارسات التي ترد في وكالات الأنباء على أنها أحداث متفرقة باقتدار وتوثيق متناهيين وتسلط الضوء على أن ممارسات التعذيب في أبو غريب وغوانتانامو وغيرهما من سجون السي أي إي المنتشرة عبر أوروبا الشرقية والشرق الأوسط ليست إلا جزءاً لا يتجزأ من مبدأ عقيدة الصدمة والذي يجري تطبيقه على الأفراد والشعوب على حد سواء.
تقول المؤلفة إن من الأشخاص الذين رأوا أن فيضانات نيواورلينز المدمرة تشكل فرصة سانحة، ميلتون فريدمان، المرشد الأكبر لحركة الرأسمالية المنعتقة من أي قيود، الذي يعود إليه الفضل في وضع قواعد لعبة الاقتصاد العالمي المطاط المعاصر.
 وتضيف المؤلفة، إن فريدمان، الذي كان يومئذ في الثالثة والتسعين من العمر، وفي صحة متهالكة، وجد في نفسه القوة الكافية ليكتب مقالة رأي لصحيفة «وول ستريت جورنال» بعد ثلاثة أشهر من انهيار الحواجز والسدود في نيواورلينز. وجاء في مقالته: إن معظم مدارس نيواورلينز قد دمرت، مثلما منازل التلاميذ الذين كانوا يدرسون فيها. وقد تفرق هؤلاء التلاميذ في أرجاء البلاد. وتلك مأساة، ولكنها كذلك فرصة لإجراء إصلاح جذري لنظام التعليم.
 وتقول المؤلفة: إن فكرة فريدمان الجذرية هي انه بدلاً من إنفاق جزء من مليارات الدولارات المخصصة لإعادة البناء، في إعادة بناء وتحسين نظام المدارس العامة القائم في نيواورلينز، ينبغي على الحكومة أن تزوّد العائلات بصكوك يمكن إنفاقها في المؤسسات الخاصة، التي يتوخى العديد منها الربح، والتي ستتلقى دعماً مالياً من الولاية. وقد كتب فريدمان، أن من المهم جداً ألا يكون هذا التغيير الأساسي مؤقتاً ولسد الفراغ بل أن يكون «إصلاحاً دائماً».
التعليم المجاني تدخل جائر في شؤون السوق
  وقد انتهزت شبكة من بيوت الخبرة اقتراح فريدمان وتقاطرت على المدينة بعد العاصفة. ودعمت إدارة بوش خططها بملايين الدولارات من أجل تحويل مدارس نيواورلينز إلى مدارس خاصة يمولها الجمهور وتديرها هيئات خاصة وفق الأسس والقواعد التي تراها ومثل هذه المدارس تخلق شروخاً عميقة في المجتمع الأمريكي، ويتجلى ذلك في نيواورلينز أكثر من سواها، حيث ينظر إليها العديد من أولياء أمور التلاميذ الأمريكيين من أصل أفريقي، باعتبارها وسيلة للتراجع عن مكاسب حركة الحقوق المدنية، التي ضمنت لجميع التلاميذ مستوى واحدا من التعليم. أما بالنسبة إلى فريدمان، كما تقول المؤلفة، فإن المفهوم الكلي لنظام المدارس التي تديرها الدولة ينضح بالاشتراكية. وينحصر دور الدولة في نظره في «حماية حريتنا من أعدائنا المتربصين وراء بواباتنا، ومن زملائنا المواطنين والحفاظ على القانون والنظام، وفرض تطبيق العقود الخاصة، وتعزيز الأسواق التنافسية». وبكلمات أخرى توفير رجال الشرطة والجنود أما كل شيء آخر، بما في ذلك توفير تعليم حر ومجاني، فهو تدخل جائر في شؤون السوق.
خصخصة التعليم
وفي تباين حاد مع السرعة الفاترة التي تم بها إصلاح الحواجز والسدود، وإعادة الحياة إلى شبكات الكهرباء، جرى بيع نظام المدارس في نيواورلينز بالمزاد العلني بسرعة ودقة لا مثيل لهما إلا في الجيش.
 ففي خلال تسعة عشر شهراً، وبينما كان معظم سكان المدينة الفقراء لا يزالون خارجها، كان قد تم استبدال نظام المدارس العامة في نيواورلينز بصورة تامة تقريباً، بمدارس خاصة يديرها القطاع الخاص. فقبل إعصار كاترينا، كان مجلس التعليم يدير 123 مدرسة عامة، أما الآن فهو يدير 4 مدارس عامة فقط. ولم يكن في المدينة قبل تلك العاصفة سوى سبعة من أمثال تلك المدارس الخاصة، أما الآن فيوجد منها 31 مدرسة، وكان المعلمون في نيواورلينز ممثلين في العادة في اتحاد قوي، أما الآن فقد انفرط عقد ذلك الاتحاد وتم إنهاء خدمة جميع أعضائه البالغ عددهم 4700 عضو. واستؤجر بعض المعلمين الأصغر سناً للعمل لدى المدارس الخاصة المذكورة، وبرواتب أقل، أما الغالبية العظمى من المعلمين فلم تُستخدم.
 وهكذا أصبحت مدينة نيواورلينز المختبر البارز في المجتمع الأمريكي، لاستخدام المدارس الخاصة المذكورة، على نطاق واسع. وقد ذكر بحماس معهد المشروع الأمريكي، وهو بيت خبرة يؤمن بفكر فريدمان، أن «إعصار كاترينا قد أنجز في يوم واحد.. ما عجز مصلحو نظام المدارس في لويزيانا عن فعله بعد سنوات من المحاولة».
«اغتصاب أراضٍ تربوي»
 أما معلمو المدارس العامة، الذين رأوا الأموال المخصصة لضحايا الفيضان تُحوّل لمحو معالم نظام عام واستبداله بنظام خاص، فقد كانوا يصفون خطة فريدمان بأنها «اغتصاب أراضٍ تربوي».
 وتقول المؤلفة إنها تدعو هذه الغارات المنسقة على المجال العام في أعقاب الأحداث الكارثية المدمرة، مضافة إلى التعامل مع الكوارث باعتبارها فرصاً مثيرة بالنسبة إلى السوق، «رأسمالية الكوارث».
وتعود المؤلفة إلى الحديث عن فريدمان، فتقول إن مقالته عن نيواورلينز كانت توصيته الأخيرة في مجال السياسة العامة، فقد توفي قبل أقل من سنة على ذلك التاريخ أي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2006 في الرابعة والتسعين من العمر. وتبدو خصخصة نظام المدارس في مدينة أمريكية متوسطة الحجم، من المشاغل المتواضعة لرجل كان ينعم بالثناء عليه ويوصف بأنه رجل الاقتصاد الأهم في نصف القرن الماضي.
وكان فريدمان وأتباعه المتنفذون، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، يستكملون ترسيخ استراتيجية محددة، مفادها انتظار وقوع كارثة كبرى، ثم بيع أجزاء من الدولة بالمزاد العلني لجهات في القطاع الخاص، بينما يكون المواطنون لا يزالون مذهولين من الصدمة، ثم الإسراع في جعل هذه «الإصلاحات» دائمة.