«إلى الأمام.. فوكوشيما»

«إلى الأمام.. فوكوشيما»

توجهت السيارات الحكومية السوداء إلى منزل المغني الريفي المتواضع «وودي غوثري» في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وصل الوفد إلى منزله المتواضع وسط دهشة «وودي» الكبيرة، ترجلت فتاة يافعة من إحدى السيارات وألقت تحية حارة على الرجل المذهول، كان ذلك في العام 1941، وكانت هذه الشابة الجميلة تعمل في وزارة الداخلية الأمريكية، وهاهي تشرح باختصار عن سبب الزيارة

لقد اختارت الوزارة هذا المغني الريفي لأداء أغنية شعبية يمجد فيها المشروع الجديد الذي سينير ولاية كاليفورنيا بضياء دائم، على الرجل أن ينظم أغنية عن مشروع بناء سدي «بونيفيل» و «كولي» على نهر كولومبيا الشهير، فكانت الأغنية «إلى الأمام يا كولومبيا» التي حصدت نجاحاً كبيراً، لكن «وودي» لم يكن يعلم بأن تلك السدود قد بنيت لتزويد موقع «هانفورد» النووي بالطاقة الكهربائية والذي تم بناؤه لاحقاً في الولاية، وليس لإنارة كاليفورنيا كما قالت كلمات أغنيته، ذلك الموقع الذي أنار لاحقاً مدينتي «هيروشيما» و«ناكازاكي».. حتى الاحتراق!!

نعيش في هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة لكارثة مفاعل «فوكوشيما» الياباني، وعلى الرغم من التعتيم الإعلامي الممنهج على طبيعة الكارثة وآثارها المتفاقمة في هذه الأيام، تبقى في الذاكرة المشاهد المروعة التي نقلتها وكالات الأنباء في ذلك الحين وهي تنقل فزع فرق العلماء وهي تحاول انتشال أحد اكثر البلدان تقدماً من كارثة نووية لا حدود لها، تحاول شركات الطاقة الكبرى إخفاء الحقائق عن مضاعفات تلك الكارثة، لكن الأرقام الصادرة عن الكثير من الجمعيات العلمية المستقلة تفيد بان الكارثة ما زالت في بدايتها، وهي تعلن بصراحة على أن آثار ذلك التسرب لن تختفي بسهولة كما يتم التسويق لها، والتاريخ خير برهان على ذلك..
مليون وفاة، هذا هو عدد ضحايا كارثة مفاعل «تشرنوبل» الشهير في العشرين السنة الاولى بعد الانهيار، تلتها إحصائيات أفادت بأن 20% من أطفال بيلاروسيا - البلد الذي نال الحصة الكبرى من الإشعاعات- هم اطفال «أصحاء» بالمعنى الحقيقي للكلمة، وسيعاني البقية من مضاعفات مستقبلية شنيعة ستشمل جميع وظائفهم الحيوية، ليس من العجيب أن نرى كل ما يحيط بالموقع المشؤوم وهو يتعرض لإشعاعات يومية منذ انهياره في العام 1986 إلى هذه اللحظة، كما يحدث أيضاً في نهر كولومبيا اليوم، لا تزال آثار النظائر الإشعاعية في مياه ذلك النهر الامريكي ترافقها جزيئات من المعادن الذرية الثقيلة التي تسبح في التيار لأكثر من سبعين سنة!
يميل العلماء إلى اعتبار المفاعل النووي كوحدة صناعية تحمل مقداراً كبيراً من التلوث لمحيطه الحيوي، إنها تبعث أطناناً من الغازات السامة في الهواء وتعمل على تلويث التربة والمياه بمركبات معدنية سامة ونظائر إشعاعية خبيثة، لا يمكن أبداً احتواؤها أو التقليل من آثارها، حيث تعمل تلك المكونات على الانتشار السرطاني في المكونات الإحيائية بكافة أشكالها حتى تصل في النهاية إلى طعامنا ومياهنا لنراها لاحقاً في العيوب الخلقية والتشوهات المرضية والخلايا السرطانية الخبيثة، كما حصل في «جزر المارشال»، المكان المفضل للولايات المتحدة الأمريكية لتجربة 67 قنبلة نووية في الخمسينيات من القرن الماضي، لقد حصدت تلك الجزر المنسية مؤخراً على لقب «أكثر الأمكنة تلوثاً في العالم» بعد أن فاقت معدلات الإجهاض عند النساء الحوامل ال 95 بالمائة بعد مرور أكثر من ستين سنة على آخر تلك التجارب!
تشير التقارير العلمية إلى تفشي كميات كبيرة من«السترينتيوم» و«الكاسيوم» من مفاعل «فوكوشيما» إلى هذه اللحظة، حيث يكمن الخطر في سهولة دخول هاتين المادتين المشعتين بالتحديد إلى أنظمة جميع المكونات البحرية الحية من الطحالب وصولاً إلى الأسماك الكبيرة، مما يعني وصولها إلى الإنسان الذي يقتات على تلك الأحياء، وهنا أفادت دراسات مستقلة أخرى عن ازدياد حالات التشوهات الخلقية عند المواليد الجدد في سواحل كاليفورنيا بعد انهيار المفاعل، كما بدأت الحكاية السوداء في جزر المارشال.. وتشرنوبل.. وسواها!
ما زال الصمت يخيم على تبعات ذلك الانهيار، لكن مد التلوث لن يتوقف بمجرد تجاهله، وستصل تلك المواد المشعة إلى سواحل دول عدة حول العالم فتبدأ مرحلة مشؤومة من التاريخ البشري، عندها سيلاقي الكثيرون مستقبلاً مشوهاً رسمته شركات الطاقة الكبرى التي ما زالت تطمئن الناس بانتهاء تلك المشكلة إلى غير رجعة، إن جشعها ومحاربتها مناهج الطاقة البديلة سيودي بنا جميعاً إلى خطر جهنمي لا مفر منه، ذلك الخطر الذي صنعناه بأيدينا عند استهزائنا المستمر بالام الطبيعة واغتصابنا غير المحسوب لمواردها وإعادة منتجاتنا السامة إلى حضنها من جديد، فتتحول جميعاً إلى أمثال «وودي» نغني دون وعي لمستقبل منير ساطع مع وصول أولى الدفعات القاتلة من السموم إلى شواطئنا..!!