البرمجيات مفتوحة المصدر.. يسارية!!
يتعامل الإنسان العادي يومياً مع العديد من المنتجات البرمجية، ولايمكن لأي كان إنكار دور تلك البرامج في حل معضلات الحياة اليومية. في العمل أو في البيت، في أوقات الجد أو التسلية، تدخل تلك المنتجات في تفاصيل الإنتاج اليومي للإنسان مهما بلغت مستويات مشاركته في دورة الإنتاج تلك مقدارها من البساطة أو التعقيد
لا يعلم الكثيرون مدى التنافس الحاد بين أقطاب هذه الصناعة، وتنوع المنتجات التي تقدمها كل جهة منها، لكن هذه الصناعة حافظت على توجهين أساسيين منذ الربع الأخير من القرن الماضي، لتنقسم المنتجات البرمجية المتنوعة وفقاً لسياسة الإنتاج إلى نوعين أساسيين: البرمجيات مغلقة المصدر والبرمجيات مفتوحة المصدر أو ما اصطلح على تسميته بالبرمجيات «الحرة».
يمكن تشبيه صناعة المنتج البرمجي بإعداد طبق ما، فقد يقدم لك صانع هذه البرمجية الوصفة التي تمكنك من إعادة بناء هذه البرمجية دون الحاجة إليه (المصدر البرمجي)، أو قد يقدم لك الطبخة جاهزة دون أي وصفة لتضطر للعودة إليه كلما احتجت لهذه البرمجية. لذا يمكن القول بأن ا
«برمجيات حرة.. مجتمع حر»
بدأت حركة البرمجيات مفتوحة المصدر في الثمانينيات من القرن الماضي كرد فعل ثوري من المجتمع البرمجي، على الاحتكار الجائر الذي مارسته الشركات البرمجية العملاقة، على أسرار تطوير المنتجات البرمجية، فظهرت العديد من البرمجيات البديلة والمجانية والمفتوحة المصدر التي أصبحت منافساً «أخلاقيا» لمنتجات تلك الشركات الاحتكارية، كما أثبتت كفاءة أكبر بكثير نتيجة تعاون الكثيرين في تطوير وظائفها، بعد أن تم عرض «مصدرها البرمجي» على المهتمين بتحسين نوعية تلك البرامج، يقول ريتشارد ستالمان الأب الروحي لفكرة البرمجيات الحرة في كتابه «برمجيات حرة، مجتمع حر»:
«الحواسب الحديثة في هذا الوقت كان لديها نظم التشغيل الاحتكارية الخاصة بها، كان يجب عليك توقيع اتفاقية عدم إفشاء قبل الحصول على نسخة من البرامج، ما معناه أن أول خطوة لكي تستطيع استخدام الحاسب هي أن تعد بأنك لن تقوم بمساعدة جارك، كان من الممنوع أن يوجد مجتمع برمجي متعاون. القانون الذي وضعه صانعو البرمجيات الاحتكارية كان: إذا شاركت مع جارك فأنت قرصان، إذا أردت أي تعديل على البرنامج يجب أن ترجونا لكي نطوره لك. فكرة البرمجيات الاحتكارية - التي تمنعك من مشاركة البرمجيات أو تعديلها- فكرة غير أخلاقية وضد المجتمع وببساطة فكرة شريرة. »
وبسبب نمط التفكير التحرري الذي أطلقته «ثورة» البرمجيات الحرة ومدى الأذى الذي ألحقته بسياسة الاحتكار من الشركات البرمجية الأخرى، اتهم رواد فكرة البرمجيات الحرة بأنهم شيوعيون –وكأن الشيوعية شتيمة- وأصبح من الواضح بأن الأفكار الخاصة بحرية مشاركة المعلومات أو التخلص من سيطرة واحتكار جهة معينة على طريقة صناعة منتج، دون إتاحة الفرصة لمستهلكيه للمشاركة في هذه الصناعة، هي أفكار يسارية بجوهرها، ومرتبطة بالحريات التي يدعو إليها اليسار بشكل عام.
هل من الممكن اعتبار البرمجيات الحرة يسارية بالمطلق؟
هناك جدل قائم منذ فترة طويلة حول ماهية البرمجيات مفتوحة المصدر سواء كانت أداة من أدوات الرأسمالية أم أنها فكرة شيوعية بحتة، وفي حقيقة الأمر إن التنظير في أي اتجاه، عادة ما يتجاهل الجهة الداعمة لهذا التطوير أو المتحكم الرئيسي في توجهه.
منذ النصف الثاني من التسعينيات وحتى الآن نشأت شركات رأسمالية متعددة الجنسيات متخصصة بالتقنية داعمة للبرمجيات مفتوحة المصدر ومنتجة لها، كمثال على ذلك شركات جوجل وريد هات وغيرهم، معظم البرمجيات مفتوحة المصدر واسعة الانتشار اليوم تتلقى دعماً مادياً لتطويرها من واحدة أو أكثر من كبرى شركات التقنية في العالم، بل ويوجد منها ما تقوم على تطويرها بالكامل، مثل نظام التشغيل الأكثر انتشارا على الهواتف الذكية أندرويد والذي تطوره جوجل.
تدفع الحكومات إلى يومنا هذا ملايين الدولارات سنوياً لميكروسوفت ولشركات أخرى احتكارية في صفقات مشبوهة يشوبها الفساد بدلاً من استخدام برمجيات حرة مطورة ، وأنفقت ميكروسوفت عبر سنوات طويلة ملايين الدولارات، للتأثير على سياسات الدول تجاه تبني البرمجيات مفتوحة المصدر، والأخطر لفرض قوانين قاتلة للإبداع عبر تقييد حرية المبرمجين ببراءات الاختراع. وهناك أمثلة كثيرة لشركات برمجيات تنفق الملايين من أجل تقييد حرية المطورين والمستخدمين في آن واحد، فقد أدت قوانين براءات الاختراع في أوروبا وأمريكا إلى إنفاق شركات التقنية أكثر من 20 مليار دولار في عام 2011 فقط لتقوم بتسليح نفسها أمام منافسيها وسبب هذه المهزلة هو السياسات والقوانين التي يؤثر على واضعيها شركات البرمجيات نفسها.
الشركات الاحتكارية تشوه
تم تشويه مفهوم البرمجيات الحرة من الشركات الاحتكارية ذاتها التي قام رواد البرمجيات الحرة بمحاربتها منذ البداية، وأصبح من الشائع وضع ملصق «منتج برمجيات حرة» على البرامج الخاصة بتلك الشركات الرأسمالية، لتتحول المعاني الأخلاقية لحرية البرمجيات إلى نموذج ربحي تسويقي يستغل إشراق وثورية مثل هذه الأفكار لزيادة الأرباح فقط، لكن هذا يجب ألا يمنعنا من دعم توجه المنتجات الحرة، بأفكارها الصافية الأصلية في مشاركة البرمجيات بحرية بين المستخدمين، ووجود مجتمعات مبنية لمشاركة المعرفة فقط، والتحول من مجرد مستخدم للتقنية إلى مشارك في صناعتها. كل هذه المبادئ يجب أن يتبناها ويدعمها أي يساري، لكن خصوصية المعلومات وحرية تداولها، يجب أيضا أن يصبحا محط اهتمام أي ناشط يقوم باستخدام التقنية للتنظيم والعمل السياسي أو حتى في حياته اليومية.