الصين... صحوة التنين
انظر حولك، التقط أي غرض من أغراض منزلك، سترى بأن عدداً كبيراً منها قد صنع في الصين، إنها إحدى أكبر القوى الصناعية في العالم وأكثرها غزارة في الإنتاج، لكن الإحصائيات خلصت في كثير من السنوات الماضية إلى استثناء الصين من قائمة الدول المنافسة في مجال التكنولوجيا، وشبهتها بمصنع كبير نشيط يستورد معظم تقنيات هذه الصناعة دون أن يبتكر الكثير منها، كما تعرف منتجاتها التكنولوجية بتواضعها بالمقارنة مع مثيلاتها الأوروبية والأمريكية وحتى الآسيوية، لكن السنوات الأخيرة حملت تغييراً جذرياً في مجال التكنولوجيا الصينية الوطنية لتشكل الصين اليوم تهديداً حقيقياً لأقرانها من الدول الكبرى فيما يتعلق بالعلوم والتكنولوجيا بالذات.
تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش التقدم التكنولوجي لفترة طويلة من الزمن، وما زالت إلى الآن تحتل المرتبة الأولى كما أشار تقرير منظمة «نيستا» البحثية السنوي، لكن التطور الصيني السريع في مجال التكنولوجيا خلال السنوات الخمس الأخيرة قد فاق التوقعات، وستحتاج الصين إلى أقل من عشر سنوات لتتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى في مجال الاستثمار في البحث والتطوير العلمي وإلى أقل من ذلك بكثير لتتجاوز الدول الأوروبية بعد ان احتلت المركز الثاني منذ بضع سنين وأقصت اليابان إلى المركز الثالث للمرة الاولى منذ زمن طويل، كما يمكن للباحثين ملاحظة الزيادة الواضحة في عدد الأبحاث المنشورة في الحوليات والمجلات العلمية في كل مكان حتى بلغت نسبتها في العام 2011 ما يقارب عشر الأبحاث المنشورة حول العالم، وها هي اليوم تحرز تقدماً ملحوظاً في مجال أبحاث الفضاء وتأهيل المركبات لنقل رواد فضاء بغرض الاكتشاف وجمع العينات، بالإضافة إلى جوهرة انجازاتها اليوم، الكمبيوتر الفائق السرعة الأول في العالم: تيان هي 2.
أمريكا ليست سعيدة بهذه الحال على الإطلاق، فقد أعلنت مجموعة بوسطن الاستشارية بأن شركة «زايومي» الصينية لصناعة الهواتف المحمولة هي «إحدى الشركات التكنولوجية الأكثر إبداعا ماضياً ومستقبلاً» كما وصفتها بالحرف، وأثارت بعدها موجة من الاستهجان في الأوساط التقنية الأمريكية، «كانت الصين من أمهر وأسرع المتابعين والمقلدين لتقنياتنا، ولم يكن الأمر يتعدى ذلك، لكننا نرى اليوم إبداعاً وأفكاراً على قدر كبير من التنافسية» يقول كولين لايت مدير شركة برايس ووتر هاوس للخدمات التقنية ملخصاً هذه الحالة، وهو بالفعل على حق، فقد أكدت الدراسات الأمريكية أن الصين قد رفعت نسبة التمويل العلمي والتكنولوجي بمقدار 22 بالمائة بين عامي 2012 و2013 بالمقارنة مع 4 بالمائة فقط أمريكيا، أي أن الصين اليوم تنفق ما يقارب 284 مليار دولار في مجال دفع عجلة التطور التكنولوجي إلى الأمام، وبسرعة تخيف العالم.
بدأت هذه الطفرة مع تبني الصين مجموعة مميزة من التشريعات شجعت ما أسمته «الابتكار المحلي»، مما قلل إلى حد كبير من اعتمادها على التقنيات الغربية وبالأخص الأمريكية منها، وركزت على إجراء عمليات تأميم واستحواذ حكومي على العديد من الشركات التي حاولت خرق هذه السياسات، كما شجعت المنافسات الصغيرة بين الشركات المختلفة العاملة على أراضيها والتي استفادت من تراخي الحكومة الصينية فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية وانتشار حالات القرصنة مما دفع الشركات ذاتها إلى البحث دوماً عن الجديد للبقاء في دائرة المنافسة، كما قامت باستغلال انتشار حالات القرصنة تلك وتوجيهها خارجياً وبشراسة غير معهودة ضد منافسيها، حتى أصبحت اليوم الأولى عالمياً في مجال التجسس الصناعي وسرقة الأفكار والأسرار، وبالأخص من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلنت شركة جوجل المعروفة منذ عام عن قيام قراصنة يعملون على أجهزة حاسوبية متطورة تتوضع جغرافياً على الأراضي الصينية بالهجوم على مخدماتها الخاصة بهدف جمع ما أمكن من المعلومات، رافقتها تقارير إعلامية عن قيام جماعات مشابهة باستهداف كبريات شركات التقانة الأمريكية والمعاهد التقنية ومجمعات البحث العسكرية وعدد من البنوك وشركات المحاماة وبعض الوسائل الإعلامية في موجة موحدة، أعلنت الحكومة الصينية وقتها عدم مسؤوليتها عما جرى، لكن ذلك لم يقنع أحداً ممن على دراية بسياسة الصين التقنية الجديدة.
حملت السنوات الأخيرة الكثير من الضغوط على شركات التقانة ومعاهد البحث العلمي الامريكية، الحكومية منها والخاصة، وتأثرت إلى حد كبير بأزمتها الاقتصادية الخانقة، حتى وصل الإنفاق الحكومي الأمريكي على البحث العلمي إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من أربعين عاماً في العام 2013، أما في الصين، فقد توجت مجموعة من أصحاب الاستثمارات التكنولوجية إلى الحكومة الصينية بالتماس يدعو إلى تغيير الجملة الشهيرة «Made In China» المطبوعة على جميع منتجات البلاد إلى «Innovated in China» أي «ابتكر في الصين»، إنهم لا يريدون أن تبقى الصين مصنعاً ضخماً لمنتجات العالم فقط، الهدف اليوم هو السبق في الابتكار، مهما كانت الوسيلة، وها هي الصين تسير نحو تحقيق هذا الهدف اليوم بخطا ثابتة وبثقة عالية وبهمة لا تعرف الملل.