تجار الأسنان والإنسان
في إطار الأزمة الوطنية الشاملة التي تعيشها سورية منذ أكثر من عامين ونصف، والمأساة الإنسانية العميقة المتفاقمة والتي يذهب ضحيتها مئات الآلاف من الشعب السوري، من القتل والجوع والمرض وظروف الهجرة والنزوح والتشرد، مسبباً انعدام وتردي الخدمات الصحية الأساسية لعموم المواطنين السوريين خصوصاً الرعاية الصحية في مجال طب الأسنان،
حيث فاقمت من سوء الحالة الصحية لدى الغالبية العظمى من فئات الشعب السوري عوامل التشرد وسوء التغذية والتلوث الكبير للأطعمة والمياه مما أدى لانخفاض المناعة العامة وضعف المقاومة وازدياد الأمراض التي تفاقم الشكايات السنية كالسكري والأمراض المفصلية والكلوية، ناهيك عن استحالة أو صعوبة الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية والعيادات المتبقية والتي تعرضت للدمار وخرجت من الخدمة، إضافة لانقطاع الطرق والحواجز وغيرها. ناهيك عن ذلك انقطاع التيار الكهربائي وعدم توفر بدائل لدى الأطباء أو المستوصفات وغيرها.
وفي إطار الرعاية الصحية الفموية والسنية يجدر الإشارة إلى أنها تتطلب بالإضافة للعامل البشري (الطبيب والمريض) العوامل الفنية والتقنية كالآلات والمواد الصناعية والطبية الدوائية.
في مقدمة هذه الأمور تأتي مشكلة ارتفاع أسعار المواد السنية والتي كانت في الأساس مرتفعة، اذ تضاعفت أسعار مواد طب الأسنان الموجودة في السوق المحلية بنسب متفاوتة أقلها 700% (فمثلاً المنتج المحلي كالقطن ارتفع سعره للكيس الواحد من 25 ل.س إلى 125 ل.س والكحول للعبوة الصغيرة من 35 ل.س إلى 400 ل.س) أما عن المواد المستوردة فحدث ولا حرج. وقد انعكس هذا الموضوع على المواطن (المريض والطبيب) فلم يترك مجالاً للمواطن بالتفكير بالوضع الصحي نتيجة فقدان دخله وتآكله، وأوجد على الطبيب التزامات مادية باهظة يعجز عن الإيفاء بها كتغطية أجور العيادة وثمن المواد الطبية المرتفع وانقطاع التيار الكهربائي المستمر مع عدم وجود بديل. أما المستفيد الأول في هذا المجال فقد كان كبار تجار مواد الأسنان والمستوردين الذين كانت مستودعاتهم مليئة بالمواد المستوردة أو المهربة سابقاً قبل الأزمة، مثلهم مثل كل تجار الأزمة في المواد كافة. حيث لجؤوا إلى حجب المواد لفترة ثم إعادة طرحها في السوق بأسعار خيالية ويضطر الطبيب لشرائها مرغماً ورفع السعر قليلاً ليستمر في تقديم خدماته وعيشه.
كل هذا كان سابقاً وفي إطار الأزمة في غياب الخدمات السنية في المراكز التابعة للدولة ووزارة الصحة والنقابات وغيرها. وهذا ليس جديداً على تلك المراكز التي لم تقم بدورها حتى قبل الأزمة وذلك ضمن سياسة إفشال قطاع الدولة وتخسيره وإنهائه التي سادت في الفترة السابقة للأزمة وزادت تجلياتها في الأزمة من تعطيل الآلات السنية وسرقة المواد السنية وعدم تقديم أي خدمة للمواطن في هذه المراكز سوى القلع في أفضل الحالات رغم وجود الكادر الطبي الفائض عن الحد من أطباء ومساعدين، مثلاً في جرمانا قبل الأزمة يوجد مستوصفان وفي كل منهما عيادة سنية واحدة بعدد من الكراسي وفي كل عيادة أكثر من ستة أطباء أسنان ومساعدين دون عمل يُذكر يقدم للمواطنين فكيف الآن؟ علما أنه يمكن تحسين هذه الخدمات إن كان في المستوصفات التابعة للوزارة أو النقابات أو الهلال الأحمر بشكل ينعكس إيجابياً على عموم المواطنين وبأعداد كبيرة.
وفي محاولة أخيرة قبل الأزمة بقليل لضرب النظام التعاوني والذي كان يقدم المعالجة السنية لموظفي قطاع الدولة وبعض موظفي القطاع الخاص، وبموجبه تقوم النقابة بتحصيل أجور المعالجات من شركات القطاع العام والخاص ليذهب جزء منها إلى صندوق خزانة الأطباء ويصار إلى توزيع الباقي على الأطباء فقد جرى تأسيس شركة إدارة النفقات الطبية التي أصبحت وسيطاً مع شركات التأمين الصحي الخاصة العاملة في القطر. وهذا أدخل المريض والطبيب في متاهات جديدة أربكت كلا الطرفين وانعكست فقط ربحاً على شركات التأمين نتيجة علاقات السمسرة وغيرها.
وقامت وزارة الصحة بالتعاون مع نقابة الأطباء ونقابة أطباء الأسنان والصيادلة بتأسيس شركة خدمية محدودة المسؤولية تقوم باستيراد كل ما يتعلق بمواد طب الأسنان وطرحها في السوق بأسعار معقولة، تسمح للطبيب بتقديم خدمة أفضل تتناسب مع قدرة المواطن المتآكلة من جهة، وكسر احتكار هذه المواد من التجار الذين كغيرهم من قوى السوق التي وجدت في الأزمة مصدراً جديداً للنهب والربح على حساب المواطن والطبيب. ولئن بقي هذا الموضوع حبراً على ورق لحد الآن بسبب قوى الفساد الموجودة ضمن قطاعات الدولة كافة وحتى ضمن النقابات المهنية. فنرى ضرورة أن تعمل وزارة الصحة بالتعاون مع الجامعات السورية وكليات طب الأسنان ومراكز البحوث ونقابة أطباء الأسنان على إيجاد صناعة وطنية للمواد السنية كافة وضمن المقاييس والمواصفات العالمية ليصار الى تقديمها في السوق المحلية بعيداً عن الاستيراد والغش وانتهاء الصلاحية وبشكل يتناسب مع دخل المواطن السوري هذا الدخل المتآكل دوماً لأسباب متعددة كنا نذكر بها دوماً، وخصوصاً في الأزمة الوطنية الشاملة التي تعيشها بلادنا وازدياد الحرمان في البنى التحتية عامة والصحة والتعليم، ووضع الأسرة الاقتصادي وفي السكن والخدمات وغيرها، مما يستدعي العمل على إعادة تأهيل المستوصفات التابعة لوزارة الصحة والهلال الأحمر، وتفعيلها لتقديم الرعاية السنية المطلوبة بأفضل أداء، خصوصاً مع تزايد أعداد المواطنين المحتاجين لهذه الرعاية مع سوء ظروفهم العامة وتعذر التنقل والتشرد والبرد والجوع. والعمل على تفعيل صناديق الكوارث المركزية والفرعية في نقابة أطباء الأسنان ووزارة الصحة، لمساعدة الأطباء المتضررين بعياداتهم والذين أصبحوا أعداداً جديدة تضاف لجيش البطالة والعاطلين عن العمل في سوق العمالة السورية أو المرشحين للهجرة إلى خارج الوطن.