مذكرات باحثة في البادية
بيوت طينية، طرقات ترابية، ذرات الغبار التي تملأ العيون والفم معاً، وشمس حارقة تلذع وجوههم النقية، أطفال صغار يكتشفون العالم بحواسهم الخمسة بعيداَ عن شاشات الكمبيوتر والانترنت، هم أناس يعلمون عن البادية أكثر بكثير منا نحن المتعلمين والمثقفين وفئران الكتب
. هم لا يحتاجون للتكنولوجيا الحديثة لكي تعطيهم معلومة عن أهمية نبات الشنان في حياتهم وعن ضرورة لدغ أطفالهم بصغار العقارب لاكتساب المناعة.
من أين أبدأ؟ من الشيخ هلال أو من بادية تدمر؟ آه يا وادي العزيب، أثريا، البوكمال كم هي رائعة قلعة الرحبة ومزار «عين علي» في الميادين ...
هم أناس محبون للمعرفة بالفطرة ولا يمارسون التعليم، نعم هم رعاة أو صاحبو حرف بسيطة لكنهم بطبعهم ذواقون للمعلومة، يلتفون حولنا كمن وجد الذهب بالمصادفة بالصحراء، يسألون ويمحصون ويدققون، يتابعون عملنا بعين الباحث ويسألون بروح طالبي العلم..
سألقنها درساً حينما أكبر
أذكر مرة في قرية الشريفة الواقعة على الطريق الواصل بين تدمر وحمص بالقرب من قرية الفرقلس ذلك الصبي ذا عشرة الأعوام الذي جاء يسألني عن طريقة جمع عينات التربة وما النتائج المتوقعة ولن أنسى كيف نظر إلي بعين ملؤها التحدي قائلا ً: سألقن هذه الشركات التي تعيث خراباً ببيئتنا درساً في الحفاظ على البيئة غداً حينما أكبر.
يقومون بكل طيبة خاطر بإرشادنا إلى الطرقات المؤدية لنقط بحثنا حتى لو تطلب الأمر منهم استعمال سياراتهم الخاصة، آه، تذكرت الآن ذالك الراعي بالقرب من قرية جحار الذي أركبنا سيارته برفقة معزاته الخمس، لا تستغربوا، إنها مكانة عالية لنا، فقطيع معزهم هو مثل الروح إليهم، ونحن كنا مثل روحهم آنذاك...
شوق للتعلم
بالقرب من خناصرـ استقبلنا شيخ عشيرة، طيبته رائعة، طلب من أبنائه أن يرافقونا أثناء جولاتنا الحقلية وأوصاهم بتعلم طريقتنا في قياس جودة المياه وتدوين المعاملات التي نقوم بقياسها كي يقوموا هم مستقبلاً بمراقبة جودة المياه التي يستعملونها في سقاية أراضيهم. سبق وأشرت هم أناس يتفهمون معنى البحث العلمي، نعم هم لا يكملون تحصيلهم العلمي ولكنهم يقدمون كل الخدمات الممكنة لفريق بحث علمي يمر بالمصادفة بالقرب من بيوتهم وأراضيهم..
تبرق عيونهم حين تبلغهم معلومة عن نبتة أو حيوان أو حتى نوعية التربة في أراضيهم، شيباً وشباباً ونساء ينظرون للباحث بعين الفضول والشوق الدفين لحب المعرفة.
لعب الباحثون الجيدون في بلدنا العديد منهم، دوراً محفزاً ولو بطريقة غير مباشرة في تغيير نظرة الناس للبحوث والعلوم من خلال ممارساتهم وأخلاقياتهم.
يلعب السكان المحليون في باديتنا السورية دوراً هاماً في الحفاظ على البادية السورية من خلال التزام معظمهم بعدم تجاوز حدود المحميات الرعوية المعدة خصيصا ً لإعادة إحياء البادية السورية ومكافحة التصحر..
ختاماً، في باديتنا السورية درر من الألماس المختبئة، إما لقساوة البادية وظروف المعيشة الصعبة فيها وإما لتقصيرنا في القيام بالتوعية اللازمة وتأمين موارد رزق لهؤلاء السكان، هذا الماس ما زال يتنظر من يعمل على صقله وتشكيله ليصبح جزءاً فعالاً من النسيج العلمي والثقافي للمجتمع السوري....
أخصائية في مجال البيئة و الموارد الطبيعية