تجسس؟!.. ليس بهذه البساطة..
مرت شهور ولم يهدأ الصخب المرافق للتسريبات المتعلقة بعمليات التنصت الواسعة النطاق التي قامت بها الحكومة الأمريكية في العقود الأخيرة، وما زالت الوثائق تتوالى واحدة تلو الاخرى تفضح تورط الوكالات الأمنية في سرقة المعلومات الخاصة بالأفراد والشركات وحتى الحكومات الأخرى لتحليلها والاستفادة منها ولتوسيع رقعة نشاطاتها الرأسمالية وحروبها الفكرية تحت شعارات «الأمن القومي»
وها هي كبريات شركات التقانة وشبكات التواصل الاجتماعي تواجه اليوم الاتهامات عينها بعد أن ثبت تعاملها مع الحكومة الأمريكية ضد مستخدميها حول هذا الموضوع بالذات، لكن مع وجود 2.5 كوانتليون بايت (واحد وعلى يمينه ثمانية عشر صفراً!!) من المعطيات تتناقلها تطبيقات الموبايل وبرامج الكمبيوتر ورسائل البريد الالكتروني والمحادثات الشخصية النصية والصوتية وغيرها يومياً، لا بد من السؤال: كيف تستطيع تلك الوكالات الأمنية أن تتعامل مع هذا الحجم الهائل من المعطيات الرقمية وعلى هذه الدرجة من الكفاءة؟ لننظر إلى الأمر لبعض الوقت من وجهة نظر تقنية بحتة بعيداً عن الخبث الإمبريالي الأمريكي المعروف، تكمن الإجابة في أحد أكثر العلوم التقنية انتشاراً وأقلها شهرة وظهوراً في الوقت ذاته : علم التنقيب عن المعطيات.
في أحد جبال ولاية «يوتاه» الأمريكية، وبعيداً عن كل هذا الضجيج الإعلامي، يقع أحد أقوى «الحصون الرقمية»، قصر شاهق يحوي الملايين من وحدات المعالجة والتخزين الخاصة بالمعلومات الرقمية، إنه «الكنز» الأمريكي الذي يلقى الكثير من العناية التقنية والدعم المالي المتزايد، فهو المركز الأكبر الذي يحوي خلاصة أعمال التجسس الأمريكية الرقمية يمتد على مساحة مليون قدم مربع، ويرتبط مع عدة مراكز فرعية أخرى تعمل على تزويده بما يلزم لعميات المعالجة الخارقة التي يقوم بها، كما انحصرت نشاطاته الأخيرة بتحليل المعلومات الأمنية الخارجية حيث استطاع في شهر آذار فقط من هذا العام أن يستخلص 97 مليار معلومة أمنية مفيدة تركز 14 بالمائة منها حول ايران وباكستان على وجه الخصوص، حيث اعتمد في عمله هذا على أحدث تقنيات التخزين و المعالجة المرتبطة بأعقد خوارزميات التنقيب عن المعطيات.
على كل حال، يمكن اعتبار علم التنقيب عن المعطيات من العلوم الحديثة نسبياً والمرتبطة بمعالجة البيانات الرقمية التي تزداد ضخامة وتعقيداً كل يوم، فقد كان امتداداً عضويا للحاجة البشرية للاحتفاظ بسجلات رقمية للأعمال البشرية المختلفة، ثم تحليل تلك المعطيات المخزنة للحصول على معلومات مفيدة في تطوير تلك الأعمال وتجاوز أخطائها والتوسع في طيف استخداماتها، أي أن التنقيب على «المعطيات» يتطلب وجود «معطيات خام» يتم جمعها بطرق متعددة ومن مصادر مختلفة ثم تبدأ عملية «التنقيب» والخوض في تلك الكميات من المعطيات الرقمية والربط بينها وإعادة تحليلها للوصول إلى خلاصة قيمة من المعلومات النهائية.
لم تكن ولادة أسس هذا العلم يسيرة على الإطلاق، فقد بقيت الكثير من أسسه طي الكتمان وبقي يخضع لتطوير مكثف في المختبرات الرقمية العسكرية دون أن يخضع للتطبيق العملي بسبب الكثير من العوائق التقنية والحدود البرمجية، لكنه أصبح اليوم العمود الفقري للعمل التقني في المؤسسات الكبرى على تنوع اهتماماتها بعد أن تكاثرت المعطيات التي تتعامل معها، وأصبح من الضروري إيجاد أكثر الطرق فعالية للاستفادة من تلك المعلومات.
ولكي نحصل على فكرة مبسطة حول هذا العلم المعقد لا بد من العودة إلى نشأته وأسباب انتشاره، فلنتخيل سوية أحد أجهزة الكمبيوتر في أحد المشافي في مكان ما، حيث يحوي هذا الجهاز على برنامج صغير يعمل على تسجيل أسماء المرضى يومياً مع المعلومات الخاصة بعلاجهم ضمن أقسام هذا المشفى، سنحصل في النهاية على جدول صغير قد يحوي أسماء ألف مريض شهرياً على سبيل المثال فيه مجموعة من الحقول الخاصة بالاسم والعمر والجنس وأنواع الأمراض والعلاجات لكل منهم، إنها سلسلة بسيطة من المعلومات قد تفيد في معرفة التاريخ الطبي لكل مريض بغية عدم تكرار العلاجات غير النافعة له، لكن إن قمنا بربط قاعدة البيانات البسيطة تلك مع أخريات في مشاف أخرى عن طريق شبكة حاسوبية، سنحصل على كمية أكبر من المعطيات قد تصل إلى عشرات الآلاف من السجلات، وستصبح تلك المعطيات بين يدي وزارة الصحة في ذلك البلد على سبيل المثال، وسيصبح من الصعب استنتاج المعلومات المفيدة من هذه الكمية الضخمة من السجلات، من أين يبدأ البحث؟ وعم نبحث بالضبط؟ أين المعلومات المفيدة وأين المعلومات الزائدة؟ كلها أسئلة هامة يستطيع علم التنقيب عن المعطيات فقط الإجابة عنها، حيث يستطيع هذا العمل وباستخدام طرق متطورة في البحث أن يجيب عن أسئلة لم تكن ربما في الحسبان أصلا، فعدد المصابين الكبير بحوادث سير في أحد المشافي قد يعطي فكرة هامة حول حالة الطرق السيئة في تلك المنطقة، كما أن عدد المرضى الكبير خلال أوقات محددة من النهار يساهم في العمل على زيادة أعداد الأطباء في ذلك المشفى وفي تلك الفترة من النهار، وقس على ذلك من النتائج الهامة التي قد تنقذ الكثير من الأرواح.
وبناء على ذلك، بدأت تطبيقات هذا العلم بالانتشار بسرعة مذهلة بعد أن ثبتت الحاجة له مع تزايد المعطيات وتعقيدها، فبدأت المحلات التجارية الكبرى باستخدام تطبيقات التنقيب عن المعطيات على سجلاتها الخاصة بالزبائن، وأصبحت قادرة على معرفة المنتج الأكثر شراءً وشعبية، والوقت الأكثر ازدحاماً، والموظف الأكثر نشاطاً، واستثمرت كل هذه المعلومات في سياساتها التسويقية في ترشيد الإنفاق والفعالية الإعلانية وغير ذلك من الأمور، كما قامت المؤسسات البحثية العلمية باستخدام تطبيقات هذا العلم عند إجراء الدراسات على مجموعات كبيرة من الأشخاص واستخلاص الكثير من النتائج الهامة في مجالات الطب والصيدلة وعلوم النفس والسياسة والاقتصاد، لكن التطبيق الأكثر انتشاراً اليوم لهذه الخوارزميات يكمن في شبكات التواصل الاجتماعي التي تعمل برضا الجميع على جمع معلومات هائلة حول أدق تفاصيل حياة المستخدمين ومعرفة توجهاتهم الفكرية والنفسية ثم تحليلها للوصول إلى معلومات مفصلية ستدخل لاحقاً في تطبيقات فكرية أخرى تعمل على تعديل السلوك وتغيير الأفكار واستمالة القلوب وربح العقول في إطار حرب فكرية ممنهجة نرى آثارها اليوم، لذا لا داعي للتعجب عندما تعلم بأن الضغطة البسيطة على زر الإعجاب أو نشر إحدى الصور على صفحتك الفيسبوكية سيحول خيارك هذا إلى رقم صغير في معادلة معقدة لها تأثيرها اللاحق فيما قد تراه وتسمعه .. وتعيشه.. لاحقاً!!