أزمة «فايسبوك»: إقرار بالفشل كمنصة إعلام
إن لم نقل إنها عملية محسوبة ومقصودة غايتها الربح والاستثمار، الأرجح أنها ليست مجازفة كبرى القول إنّ إقرار مارك زوكربرغ، مؤسّس موقع «فايسبوك» ومديره حاضراً، بعد فضيحة «كامبريدج آناليتكا»، بضرورة تعديل المعادلات الرياضية الأساسية والبرامج الرئيسية التي يستند إليها موقعه هو تصريح بفشل معلن. تذكيراً، تبيّن في سياق الفضيحة أن «فايسبوك» فشل في حماية البيانات الشخصية لقرابة 50 مليون شخص من مستخدميه، بل إنه تصرف بانعدام مسؤولية لأن هنالك من نبهه إلى ذلك، لكنه استخف بالأمر تماماً. ويأتي الفشل الممزوج بانعدام المسؤولية ليكرس فشل مساعي «فايسبوك» في أن يكون منصة وسائل الإعلام العالمية.
وفي التفاصيل، من المستطاع القول إنه في مسار الانتقال من كون «فايسبوك» شبكة اجتماعية إلى تحوّله وسيلة إعلامية، كان على تلك الشبكة مواجهة قيود جديدة وواجبات جديدة، بما في ذلك أن تصبح مسؤولة عن محتوى ما ينشر من أخبار. وكذلك ساهم الاشتباه بأنه كان من ضمن الأدوات التي استُخدِمتْ في التلاعب بالانتخابات الأميركيّة من جانب السلطة الروسيّة، في طرح تحديات ملموسة على شركة «فايسبوك» للحفاظ على نفسها مستقبلاً.
وغالباً كنا نرى حجم مستخدمي «فايسبوك» ينمو باستمرار في جميع أنحاء العالم. وفي المقابل، يخفي ذلك النمو استخداماً من نوع معين تلك الشبكة الاجتماعية. إذ يميل عدد التفاعلات اليوميّة إلى الانخفاض. ومنذ بعض الوقت، بدأ جيل المراهقين (14-20 عاماً) يهاجر إلى منصات أخرى كـ «سناب شات «Snap Chat».
وبدأت شبكة «فايسبوك» تفقد السيطرة عليهم. وبالنسبة إليهم، لم تعد شبكة اجتماعية من الشباب، بل باتت تتجه نحو الجمهور الأكبر سناً، كما صار مستخدموها يمليون نحو «الشيخوخة». وبدأنا نشهد انخفاضاً في عدد المتابعين، ما جعل الشبكة أقل جاذبية للإعلانات.
من عبر التعديل المرتقب في معادلاته الرياضية (وهي تسمّى «خوارزميات» Algorithms بالمصطلحات التقنية)، تبحث «فايسبوك» عن جمهور أكثر نوعيّة وأشد نشاطاً، لإعادة التفاعل مع محتوى أقل لكنه يكون أكثر تحديداً، كي لا يضطر المستخدم إلى اتخاذ خيارات حادة، كالهجرة إلى منصات أخرى.
كثرة المعلومات تقتلها
نشهد ازدحاماً كبيراً للمعلومات على «فايسبوك». في الواقع، يرى المستخدم 30 في المئة من المحتوى الذي نشره الأصدقاء والعائلة، في حين يفترض بالشبكة أن تجلب لنا التقارب في ما بيننا. وأدّى تضخم المعلومات إلى عدم وجود الفرادة فيها. ويمثل ذلك الثمن غير المنظور لتكاثر الإعلانات والدعاية. إذ لاحظ بعض المراقبين أنّ ذلك التكاثر ربما لا يؤثر في شريحة واسعة من المستخدمين لأن قلة منهم تقرأ المعلومات في «فايسبوك».
وفي المقابل، في بعض البلدان، يذهب المستخدمون إلى الإنترنت عبر «فايسبوك» حصرياً. هل يكون التأثير فيهم أكثر بسبب كونهم أقل اطلاعاً على المعلومات، ما يؤدي إلى فجوة معرفية جديدة؟
الأرجح أنّ ما ينفجر حاضراً مع سياسة «فايسبوك» الجديدة هو الفقاعة التي تضخمت في سنوات طويلة سابقة، وهي جزء مما جعله ركناً في الوصول إلى الجمهور، من دون المعرفة الفعلية لوظائفه ومدى تأثيره في الناس والمجتمع.
وإضافة إلى ذلك، لا يتحوّل مستخدمو «فايسبوك» إلى مشتركين، بل إنهم مستخدمون نفعيون للإنترنت. ويتصفح كثيرون منهم محتويات وسائل الإعلام من طريق الصدفة في أغلب الأحيان، من دون تحديد المصدر. ويعني ذلك أن فرز المعلومات المعروضة في خلاصات الأخبار التي يديرها «فايسبوك» كان يثير إشكاليات فعليّاً، حتى قبل الإعلان عن التغييرات.
ومن الممكن أن يحمل ذلك التموضع المستجد لـ «فايسبوك» إجابات استراتيجية تهدف إلى التغلب على الصعوبات التي يعاني منها في الآونة الأخيرة.
في ذلك السياق، أظهرت دراسة استقصائية أجرتها صحيفة «يو اس ايه توداي» أنّ غالبية المستطلعين يلقون باللوم على «فايسبوك» لأنه لم يكن أكثر نشاطاً وتحوطاً في مسألة التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي أوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة.
ومع ذلك، لا يبدو أن العلامة التجارية «فايسبوك» تأثّرت بذلك التراخي المقصود أو غير المقصود، بل ولا حتى بانكشافه، أقله ليس قبل فضيحة «كامبريدج آناليتكا». إذ بينت دراسة من معهد «نيتباس» نشرت في آب (أغسطس) 2017، أنّ العلامة التجارية المفضلة لمستخدمي الإنترنت كانت «فايسبوك». هل تبقى بعد السلسلة المؤلمة من الفضائح؟ لننتظر ولنر.
وكذلك يثور سؤال عن مدى نجاح تلك الإستراتيجية في الإتيان بمردود مالي في الوضع الجديد، لأنّ ذلك هو نموذج عمل فايسبوك. وكلّما تفاعلنا أكثر، ازدادت المعلومات التي ننشرها على «فايسبوك» عن اهتماماتنا وأعمالنا واتجاهاتنا، ما يعني أن استمرار «فايسبوك» رهن بزيادة المعلومات عليه. وبقول آخر، يمثل عرض البيانات الشخصية التي يجمعها «فايسبوك»، الكنز الحقيقي الذي يجعل قيمته أكبر. ماذا يحصل لو طالب الجمهور بأن لا تكون تلك البيانات مادة يبيعها «فايسبوك» للمعلنين؟
من جراء ما تقدّم، ربما يكون التعديل المزمع في خوارزميات «فايسبوك» فرصة للعودة إلى التفكير الإستراتيجي لبناء إعلام مرتكز على أسس تأخذ في الاعتبار التحولات الرقميّة. ولعل الرهان فعلياً هي في القدرة على بناء نماذج فكرية تميّز بين الإعلام الجديد (الميديا الجديدة) والإعلام الرقمي (المؤسسات الاعلامية) وتؤسس له بحثياً وأكاديمياً.
في الأحوال كلها، انكسرت أسطورة «فايسبوك»، وفي الوقت نفسه تصدعت الوشائج التي حاول بدأب نسجها مع وسائل الإعلام العام.
ومن المرجّح أن يخفض التعديل المنتظر في «فايسبوك» من حضور العلامات التجارية فيه، لأنها ربما فقدت عائدات الإعلانات القصيرة الأجل. وينعقد الرهان على قدرتها أن تحقق مكاسب على المدى الطويل.
ويشار إلى أنّه عند نهاية أيلول (سبتمبر) 2017، ارتفع عدد المستخدمين بنسبة 16 في المئة بالمقارنة بالسنة التي سبقتها، فوصلت إلى 2.07 بليون مستخدم. ترى كيف تكون أرقام 2019 بالمقارنة بـ2018؟