«الصبر الاستراتيجي» كوسيلة للتعايش البنّاء بين الصين والهند
عَقَدَ كلّ من الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عدّة اتفاقيات، على هامش قمّة البريكس في قازان الروسية، جاءت تتويجاً للكثير من اللقاءات بين المسؤولين المدنيين والعسكريين على مدى الأعوام الأربعة الماضية. يكتب فيكتور بيروشينكو، المحلِّل السياسي والخبير في مركز البحوث الثقافية المتبادلة بجامعة هوتشو في الصين عن هذا الأمر، مبيّناً بأنّه خطوة هائلة نحو حلّ الخلافات بين الدولتين، وتعزيز العالَم متعدّد الأقطاب.
ترجمة: قاسيون
وفقاً للمتحدّث باسم وزارة الدفاع الصينية تشانغ شياو قانغ، فإنّ قواتٍ من الجيشَين الصينيّ والهنديّ تحرز تقدماً في التنفيذ المنظَّم للقرارات الأخيرة بشأن القضايا المتعلّقة بالمناطق الحدودية. ونتيجة لذلك، وبعد أكثر من أربع سنوات من التوتر بشأن النزاعات الحدودية بين البلدين، بدأت عملية خفض التصعيد والعودة إلى الأساليب المثبتة لضمان السلام على طول الحدود الصينية الهندية.
ويعكس هذا الوضع الفهمَ المشترك بين الصين والهند للحاجة إلى «الصبر الاستراتيجي» في تنمية العلاقات الثنائية، على الرغم من المشاكل القائمة، ورغبة البلدين في حل الخلافات من خلال المشاورات السِّلمية.
وتزداد أهمية هذا الأمر لأنّ الغرب يحاول بشكلٍ منهجي استخدام الاختلافات بين أكبر دولتين غير غربيَّتين «من حيث القوة الاقتصادية والإمكانيّات الديمغرافية» لتقسيم العالَم غير الغربي وفرض هيمنتِه عليه.
إنّ القضاء على التناقضات الصينيّة الهندية يعزِّزُ البريكس، ونتيجة لذلك، فهو أحدُ الشروط الحاسمة لتشكيل نظامٍ عالَمي متعدِّد الأقطاب، والذي يلبّي مصالحَ تنمية الصين والهند وروسيا والعالَم غير الغربيّ بأكمَله.
النزاع الحُدوديّ
يعودُ تاريخ التوتر الحالي المستمرّ بين الصين والهند إلى أيّار 2020 بسبب نزاعٍ إقليميّ في منطقة لاداخ على حدود منطقة شينجيانغ الصينية والهند. لقد كان ذلك نتيجة لتفعيل المشاكل القديمة والنزاعات الجديدة بين البلدين. وفي حزيران من العام نفسه، اندلعت اشتباكات حدودية «في شكل قتال بالأيدي» في وادي نهر جالفان، ممّا أدّى إلى تعقيد الوضع الحدودي والإضرار بالثقة السياسية.
على مدى السنوات الأربع الماضية، عقدت الصين والهند، من خلال ممثليهما السياسيِّين والعسكريِّين، عشرات الجولات من المشاورات لنزع فتيل الأزمة الحدودية، والعمل باستمرار على تضييق الخلافات وتوسيع الاتفاق بشأن آليات السيطرة المتبادلة على الحدود.
وكان تحقيق اجتماع قازان بين شي جين بينغ وناريندرا مودي بمثابة اتفاق على استئناف الحوار الدائم بين الممثلين الخاصِّين للبلَدين لمراقبة عملية خفض التصعيد على الحدود. وبصرف النظر عن هذا، ناقش رئيس الوزراء مودي والرئيس شي أيضاً الصحّة العامة للعلاقات الثنائية على المدى الطويل.
كتب مودي في منصّة X (تويتر سابقاً) أنّ «العلاقات الهندية الصينية مهمّة لشعوب بلدَينا وللسلام والاستقرار الإقليميَّين والعالميَّين. الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل والحساسية المتبادلة هي التي ستحدِّدُ العلاقات الثنائية».
في السابق، أدّت المفاوضات المطوَّلة التي تلت اندلاع أعمالِ شغبٍ على الحدود بين البلدين، إلى انفراجٍ في العلاقات الثنائية. في عام 2017، انتهت ما يقرب من ثلاثة أشهر من الاشتباكات الحدودية في دوكلام Doklam باتفاق بشأن خفض التصعيد والانسحاب المتبادل للقوات من خط التماس الفعلي، في الوقت المناسب لقمة البريكس التالية في شيامن «جمهورية الصين الشعبية»، والتي انعقدت في الفترة من 3 إلى 5 أيلول 2017. وزار رئيس الوزراء مودي الصينَ خمس مرات خلال فترة ولايته الأولى من 2014 إلى 2019، واستضافَ الرئيسَ الصينيَّ شي مرَّتين في 2014 و2019.
«التنِّين والفيل»
لكن، بالإضافة إلى التفاقم الدَّوري للنزاعات الحدودية، فإنَّ العلاقات الصينية الهندية تتعقَّد بسبب شكوك الجانب الهندي في نوايا الصين لإزاحة نفوذ الهند في المنطقة. لكنّ الهدف الرئيسي والواضح للصين، بدءاً من تشكيل جمهورية الصين الشعبية، هو أولاً وقبل كل شيء، تنميتها الاقتصادية. أمّا نموّ النفوذ الشامل لجمهورية الصين الشعبية في المنطقة هو نتيجة ثانوية للنجاح في تحقيقها الهدف الرئيسي الاقتصادي. في المقابل، تستخدم بكين هذه النتيجة كوسيلة لزيادة المنافع الاقتصادية في التفاعل التجاري والمالي مع جيران الهند، مما يجعل نيودلهي حذرة ومتشككة.
لهذا يقترح الجانب الصيني أن تصبح دلهي شريكة داعمة بشكل متبادل في إطار التضامن الآسيوي المشترك والعمل من أجل التقدم الجماعي لـ«الجنوب العالمي»، بانية مقترحاتها على افتراض أنّ هذا من المرجَّح أن يرتبط بـ«مرحلة الفرصة الاستراتيجية» لدى الهند، وليس على افتراض «إضعاف الصين أو استبدالها».
في عموم الأمر، فإنّ مقاومة العلاقات الصينية الهندية لاختباراتِ إجهادٍ محدَّدة نتيجةً لمشاكلَ لم يتمّ حلُّها تفسَّرُ بعاملين. أوّلاً، وفقاً لصحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الرسمية، فإنّ العلاقات الصينية الهندية لم تكنْ أبداً ذات بعدٍ واحد، فهي لا تتلخّص في التنافس بروح «التنّين ضدّ الفيل» ولا تقتصر على «قضيّة الحدود»، بل إنّها متبادلة. والتعاون المفيد يتوافق مع المصالح المشتركة للبلدين.
لذلك، فمن المفارقة أنّ التوتّرات الحدودية بين الصين والهند، للوهلة الأولى، تعايشَتْ مع التفاعل السياسي والدبلوماسي المنتظم ونمو التجارة الثنائية.
وبحسب سواران سينغ (Swaran Singh) أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، واصَلَ وزيرا الخارجية مِن البلدين خلال هذه الفترة الاجتماع في المنتديات المتعدِّدة الأطراف. وفي تموز من هذا العام، التقيا مرَّتين: الأولى في اجتماع منظَّمة شنغهاي للتعاون في أستانا، ثمَّ في اجتماع رابطة دول جنوب شرق آسيا في فينتيان في لاوس.
التقى مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في تشرين الأول خلال اجتماعٍ لكبار المسؤولين الأمنيِّين لمجموعة البريكس وبريكس+ في سانت بطرسبرغ. كما تحدث مودي وشي لفترة وجيزة خلال قمة مجموعة العشرين في بالي في تشرين الثاني 2022 وأجريا محادثات غير رسمية في قمة البريكس في جوهانسبرغ العام الماضي.
التنمية المشترَكة بديلاً للنزاعات
على الرغم من النزاعات الحدودية، استمرَّت التجارة الصينيّة الهندية في النمو، رغم أنّ العجز التجاري الهندي قد وصل إلى 101.02 مليار دولار، متجاوزاً رقمَ العام 2021 البالغ 69.38 مليار دولار.
ووفقاً للبيانات الهندية، ارتفعت التجارة بين الهند والصين في عام 2022 بنسبة 8.4% مقارنة بعام 2021 ووصلت إلى مستوى قياسي قدره 135.98 مليار دولار. وفي السنة المالية 2023-2024 (المنتهية في 31 آذار)، احتلّت الصين المرتبة الأولى بين شركاء الهند التجاريّين، مما دفع الولايات المتحدة إلى المركز الثاني.
إلى جانب ذلك، تنطلق العلاقات الثنائية بين الصين والهند من النموذج الحضاري المتمثّل في «الصبر الاستراتيجي»، كما أطلق عليه سينغ، وهو الأمر الذي يساعد بشكل كبير في التقليل من التأثير السلبي للمشاكل التي لم يتمّ حلّها، على العلاقات التجارية والاقتصادية ذات المنفعة المتبادَلة، والتي يشارك فيها الجانبان. إنّ نموذج «الصبر الاستراتيجي» يسمح بالتعايش بين الاتجاهين المتعارضَين في العلاقات الصينية الهندية.
يرى سينغ بأنّ هذا الأسلوب نتاجٌ لتفسير الحضارات الهندية والصينية «للزَّمَن» بشكلٍ دَوريّ، ويعتمد على المفاهيم الأساسية للفلسفة الصينية-الهندية. وعلى هذا فقد حوَّلتْ الصين والهند مفهومَ «الصَّبر» إلى فنٍّ وعلمٍ لاستخدام «وقت الانتظار» لتطوير استراتيجيّات طويلة الأمد لحل المشاكل لصالح أصحاب المصلحة كافّة. وهذا يعني أنّ «الصبر الاستراتيجي» يتمّ أخذُه بالاعتبار حتى عندما «لا يوجد حلّ»، بهدف إيجاد حلٍّ عمليّ يعزز التعايش السِّلمي.
ويُظهر سينغ فوائدَ هذا النهج الحضاري في حلّ المشاكل المعقدة في العلاقات الثنائية من خلال مقارنته بالأزمة الأوكرانية: «عندما قامت الولايات المتحدة بتجميع تحالفٍ من خمسين دولة لدعم العمل العسكري لأوكرانيا، الأمر الذي جعل مفاوضات السلام مستحيلة».
ونظراً للاتجاه التاريخي، فإنّ نموذج الصبر الاستراتيجي في العلاقات الصينية الهندية لن يحدِّد علاقاتِهما الثنائية فحسْب، بل العلاقات الدولية أيضاً، لأنّ مستوى التفاعل بين هذين الاقتصادَين غير الغربيَّين الكبيرَين والمتناميَين يؤثّر بشكلٍ مباشر على تشكيل عالَم متعددة الأقطاب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200