أفكار استراتيجية حول اشتداد المعركة ضدّ «إسرائيل»... خصوصيّتها وكيفية الانتصار فيها؟
من المفيد في خضمّ تسارع الأخبار اللحظية، أن نقف قليلاً ونتأمّل المشهد الاستراتيجي الواسع. فهذا، ومن منظور التحليل الجيوسياسي، وبالاستناد إلى الأدوات النظرية والمعرفية الأساسية التي نعتمدها والتي لا تتغيّر بتغيّر التقارير الإعلامية اليومية، قادرٌ على إيصالنا إلى استنتاجات أكثر صوابيّة، وإعطائنا قدرةً على التنبؤ بما سيحدث على المدى المتوسط، ناهيك عن البعيد. لهذا يأمل هذا المقال أن يطرح أسئلة بسيطة، عسى أنْ تُمهِّدَ إجاباتُها الكليّة لفهمٍ أوسعَ لما يجري.
- كيف وما تأثير العِلم المسبق للولايات المتحدة بميعاد الضربة الإيرانية التي استهدفت الكيان الصهيوني في 1 أكتوبر/تشرين الأول؟
هناك الكثير من التفسيرات لهذا العِلم المسبق، ربّما أبرزها أنّ إيران نفسها مضطرّة لإعلام دول الجوار المطبّعة مع «إسرائيل»، والتي ستمرّ صواريخها في أجوائها، كي لا يُعتبَر عملها عدواناً ضدّ دول الجوار هذه. هناك بالتأكيد فرضيات أخرى، كأنْ تهدفَ إيران من إعلامها المبكر لجهاتٍ وسيطةٍ بينها وبين الأمريكيِّين إلى تحديد هدفها في عمليّةٍ محدودة النطاق، وليس بَدء حربٍ واسعة.
لكن بغضّ النظر عن الفرضيات الأخرى، هناك فرضيتان للوقوف عندهما: الفرضيّة الأولى هي القائلة بوجود مسرحيّة مرتّبة مسبقاً؛ وهذه لا تستحقّ النقاش، فأصحابها «عُمِيَتْ قلوبُهم»، ولا نَفعَ في نقاشهم. أمّا الفرضية الثانية فهي القائلة بأنّ القدرة الاستخباراتية الفائقة للولايات المتحدة تمكّنها من اختراق دوائر صنع القرار في إيران، وهذا أمرٌ يستحقّ النقاش.
في البدء، يجدر بالذكر أنّ عدد التحذيرات الأمريكية لـ«الإسرائيليين» في الفترة ما قبل الضربة الإيرانية الأخيرة، ربما بلغ أربعين تحذيراً على الأقل بحسب بعض من حاولوا إحصاءها؛ ما يعني أنّ الاستنفار والاستعداد المسبق الأقصى للكيان لم يَحمِهِ من الأضرار التي لحقت به من جرّاء هذه الضربة، بالرّغم من أنّ عنصر المفاجئة فيها بهذا المعنى كانَ شِبهَ مهمَلٍ إنْ لم نقلْ معدوماً. لكن السؤال الآخر الذي يجب أن يسترعي النظر: إنْ كانت الولايات المتحدة قد استطاعت، بحسب ما يَفترض البعض، اختراقَ دوائرِ صنع القرار في إيران، فلماذا لم تتمكّن من معرفة العدد الفعلي للصواريخ وأنواعها وأهدافها؟
وحتى لو قال بعضُ مؤيِّدي فرضية «الاختراق» بأنّه ربّما اقتصر على المعرفة المسبقة «للتوقيت»، وليس التفاصيل الأخرى، فإنّ السؤال الأهمّ يبقى: لماذا تمكّنت الصواريخ الإيرانية من دكّ المواقع الصهيونية رغم التحذير المبكر؟ وأين هي –أو ما حدود- فعّاليّة منظومات الدفاع الصاروخي «المتطوّرة» التي تستخدمها «إسرائيل»؟ وكيف تمكّنت ضربةٌ قد أُعلِنَ عنها قبل ساعات على الأقل، ناهيك عن الوقت الذي تستغرقه هذه الصواريخ لقطع مسافةٍ تتخطَّى ألف كيلومتر، من إلحاق الضرر الكبير - إنْ لم يكن التدمير الكامل - بقواعد عسكرية هامّة مثل مطار نيفاتيم المحصّن، والذي يحوي طائرات F-35: فخر الصناعة الغربية-الأمريكية، وأكثرها كلفةً وتطوراً؟
- بعيداً عن التأثير العسكري المباشر، ما تأثير الضربة الإيرانية على الكيان الصهيوني؟
إضافة لكونه جزءاً من المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المأزومة عموماً، يعاني الاقتصاد «الإسرائيلي» خصوصاً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. والحرب المستمرّة في غزة كانت وما زالت كفيلة بإخافة الشركات التكنولوجيّة، وبعض القطاعات كثيفة التمويل، ذات العقود مع الخارج، الأمر الذي سيتفاقم مع توسيع الحرب إلى لبنان، والاستنزاف المستمر من كل جبهات الإسناد.
قدّرتْ صحيفة Calcalist الماليّة العبرية، منذ أشهر، الأموال اللازمة لتتمكن «إسرائيل» من مواصلة حربها ضدّ المقاومة في قطّاع غزة، فنقلَتْ عن أرقام أولية لوزارة المالية «الإسرائيلية»، أن تكلفة الحرب مع حماس... ستصل إلى 51 مليار دولار (200 مليار شيكل) بشرط أن تبقى ساحة المعركة مقتصرةً على غزة فقط وأن تدوم بين 8 إلى 12 شهراً لا أكثر.
اليوم، توسّعت رقعة المعارك، إلى الضفة أولاً، ثمّ جنوب لبنان، وكذلك الجولان المحتل عبر بعض عمليات المقاومة هناك. عنى هذا بأنّ «الإسرائيليين» بدؤوا يعانون الانعكاسات المباشرة للعمليات العسكرية، لدرجة أنّ «الجبهة الداخلية» للكيان بدأت توجّه بفتح المدارس إلى جانب الملاجئ، أو حتّى الدراسة «أونلاين» من الملاجئ.
ورغم مكانة «إسرائيل» المميزة لدى مؤسسات التقييم والائتمان والتمويل الغربية، فهذا لم يمنع مؤشر Standard & Poor’s Global من تخفيض تصنيفها الائتماني مباشرةً بعد تلقيها صواريخ إيران. لينضمّ بذلك إلى مؤشر Moody الذي خفّض تصنيف «إسرائيل» للمرّة الثانية هذا العام.
لا يبدو أنّ «إسرائيل» -وهي التي، كما أشارت افتتاحية قاسيون رقم 1194، اعتادت على الأمن العالي والرخاء والحروب السريعة المدمرة- يمكنها إدامةُ الحرب في ظلّ الاستنزاف المتصاعد اليوم مع المقاومة.
- هل الضربة الإيرانية للكيان الصهيوني هي حالة منعزلة انتهتْ؟
كثرٌ في الشارع اليوم َمن يتمنّون أنْ تُعلِنَ إيرانُ الحربَ على «إسرائيل» أو تُوجِّهَ ما يتصوّرونه «ضربةً قاضيةً» و«نهائيةً» مُتخيَّلةً بأنها «ستختصر الطريق والدماء»، ورغم تفهُّمنا أنّ مصدر هذه الأمنية الشعورُ الصادق بالتعاطف مع المدنيين والمقاومين في فلسطين ولبنان، لكن ليس من المنطق توقّع حدوثِها بالشروط القائمة، ولا سيّما أنّها لا تتوافق مع الاستراتيجية الواعية والمقصودة التي تنتهجها المقاومة، وأثبتتْ جدواها في ظل موازين القوى القائمة وشكل الحرب «غير المتناظرة» وكلّ التعقيدات الملموسة، ألا وهي استراتيجية الانتصار «بالنقاط» بمعركة النفَس الطويل و«الصبر الاستراتيجيّ» التي لا مفرّ فيها من التضحيات الضرورية. لكن هل يعني هذا بأنّ الصواريخ الإيرانية التي أصابت الكيان عملٌ منعزل انتهى بانتهاء إطلاقها؟ بالتأكيد لا.
بغضّ النظر عن قدرة أو نيّة «إسرائيل»، ومحرّكي خيوطها في الولايات المتحدة، على الردّ على إيران في إيران نفسها، فالأمر يتجاوز هذا النوع من التفكير اللّحظي. إنّ عمليّة إطلاق الصواريخ من إيران جاءت في أعقاب ضربةٍ معنويةٍ مؤلمةٍ بلا شكّ -ولو مؤقتاً- لدى جمهور المقاومة في لبنان وخارجه، جرّاء نجاح جيش الاحتلال باغتيال الأمين العام لحزب الله، وهذا ليس بالأمر الذي يمكن المرور عليه ببساطة. الأمر الآخر، أنّ هذه الضربات تزامنت مع توسيع حزب الله لرقعة ضرباته على أهداف «إسرائيلية» في شمالي ووسط فلسطين المحتلة، ما عنى بأنّ المقاومة سليمة ومعافاة وقادرة على الاستمرار في عملها على أتمّ وجه، الأمر الذي برهنته الأيام التي تلت ذلك، والخسائر الكبيرة في صفوف جيش الكيان، والتي لا يَعترف سوى بجزء منها طبعاً.
صحيح أنّ لا مصلحة لإيران بحربٍ واسعة يحاولُ الفاشيّون جرّها إليها، وربما لا يريدها كذلك جناحٌ أمريكيٌّ محدَّد، خوفاً على غرق الولايات المتحدة نفسها فيها، مما يعرقل متابعة حربها شرقاً (في أوكرانيا خصوصاً)، لكنّ الصواريخ الإيرانية، أثبتت هذه المرّة، وخلافاً للوظيفة الرمزية لصواريخ ومسيَّرات نيسان الماضي، بأنّها قادرة على التدمير، وليس بإمكان الكيان وجيشه فعل شيء لتفادي ذلك. يعني هذا أنّ بإمكان إيران في حال اندلاع حربٍ أكبر، أنْ تصيب الكيان بمَقتل ليس في المنشآت العسكرية فقط كما حرصت في الضربتَين، بل وفي القطاعات الحيوية الأخرى أيضاً كالموانئ والغاز والقطارات والجسور، التي لن يتمكن الكيان من إخفائها أو نقلها خلال الـ 15 دقيقة إلى نصف ساعة التي تستغرقها الصواريخ الإيرانية للوصول، فما بالك بالصواريخ فرط الصوتية التي جرّبتْها إيران بنجاح.
الأمر الآخر أنّ هذه الصواريخ أو أمثالها، التي ليس معقولاً أنْ تَستخدمَها إيران يوميّاً، والتي تأكّد وجودها لدى الحوثيّين، موجودةٌ على الأرجح لدى حزب الله أيضاً، بحيث لن يستغرق منه إرسالُها إلّا بضع دقائق. وإنْ كان استخدام هذا النوع من الصواريخ رهناً بدرجة تصعيدٍ معيَّنة بالمعركة، والموافقة الإيرانية، فهذا يعني بأنّ تخطّي الكيان لخطوطٍ محدَّدة في جنوبي لبنان قد يعني معاناته من آثار تدميريّة لن يُفلِحَ عدوانُه ووحشيّتُه تجاهَ المدنيّين، في لبنان وفلسطين، في وقايتِه منها.
- ما هي الاستراتيجية الإيرانية على المدى الطويل والقصير تجاه «إسرائيل»؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلّا بالعودة قليلاً إلى الثورة الإيرانية ضدّ الشاه في 1979. يدرك أصحاب القرار في إيران منذ ذلك الوقت، بالتجربة والحسّ السليم، بأنّ الولايات المتحدة تحاول تدمير الثورة وتفتيت إيران، وقد كان في دعم الأمريكيين لصدَّام حسين لجرّ العراق إلى الحرب مع إيران، خيرُ دليلٍ للإيرانيين على أنّ الولايات المتحدة ونهجها الإمبريالي لا يمكنُه التعايش مع أيّ دولة مستقلّة في الشرق العظيم، وخاصةً دولة كبيرة كإيران. من هذا المنطلق فالهدف الاستراتيجي بعيد المدى لإيران هو احتواء «إسرائيل» ومن ثمّ حصارها حتى الموت؛ وهذا يفسّر بالمناسبة أنّ «الموت لإسرائيل» ككيان استعماريّ عدوانيّ وتوسّعي وبكلّ وظيفته وخدماته للمركز الإمبرياليّ، ليس مجرَّد شعار عاطفيّ أو أيديولوجيّ بلا مبرِّر مادّي؛ بل قضيّةُ مصلحةٍ كبرى تتعلّق بالحياة أو الموت بالفعل لإيران نفسها كما لشعوبِ ودولِ المنطقة، مثلما أنّ الوصف الأيديولوجيّ للولايات المتحدة الأمريكية بأنّها «الشيطان الأكبر» يعبِّر عن واقعٍ مادّي للعلاقة بين الأصيل (الأمريكي) والوكيل (الإسرائيلي). وبغض النظر عن الكيفية والآجال التي سيتكشّف عنها مستقبل الهزيمة النهائية لـكيان الاحتلال الصهيوني وواشنطن، فممّا لا شكّ فيه أنّ الصراع، إلى ذلك الحين، سيتواصل ويشتدّ مع الأصيل/واشنطن، إذْ سيتمّ إضعافُها عبر طرد ما تبقّى من القوات الأمريكية من الشرق الأوسط. ومن المؤكد أنّ إيران تأمل بذلَ كل ما في وسعها لتجنّب انتشار الحرب إلى أراضيها، ولكن إذا كانت واثقة للغاية من قدرتها مع حلفائها من المقاومات الشعبية في المنطقة على حسم نتيجة الحرب وطرد ودحر القوات الأمريكية و«الإسرائيلية»، فقد تستخدم إيران قواتها المحلية بطريقة لا تقتصر على «الضرب من بعيد» إذا اضطرّت إلى ذلك.
هذا بشأن الهدف الاستراتيجي بعيد المدى، أمّا الهدف الاستراتيجي قصير المدى فهو منع «إسرائيل» من تحقيق اختراقٍ لـ«قوس المقاومة» بأكمله، أو حصار قوى المقاومة والقضاء عليها. فبمجرّد أن تخترق «إسرائيل» الحصار، فهذا يعني أنّ الولايات المتحدة اخترقت الحصار، وبالتالي ستتمكن من تهديد استقرار ووحدة إيران، وكذلك الدول الأخرى مثل تركيا، على غرار ما فعلته في سورية.
من منظور استراتيجي، يمكننا أن نرى بوضوح أنّ «إسرائيل» والولايات المتحدة في عجلةٍ من أمرهِما لكسر طوق المقاومة، بينما لدى إيران «ترفٌ نسبيٌّ» للعمل بهدوء وتقسيم الخطوات إلى مراحل أطول. في الواقع، السبب المباشر للاختلاف في الاستعجال هو الأزمة الرأسمالية العالمية، وأزمة الإمبريالية العاجزة عن الحفاظ على هيمنتها. لنتذكّر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين واجهت إيران تطويقاً أمريكياً كاملاً أو شبه كامل: في الشمال الغربي لإيران توجد تركيا المنضوية في الناتو، وفي جنوبها الغربي قواعد بحرية لواشنطن وحلفائها في الخليج، وفي شرقها أفغانستان وفي غربها العراق، كبلَدين سيطرت عليهما الولايات المتحدة بعد غزوهما، وفي الجنوب الشرقي حليفتها وامتدادها العسكري والاستخباراتي في ذلك الوقت باكستان. حتى في آسيا الوسطى كان الحضور الأمريكي لا يزال قوياً جرّاء تعزيز وجودها هناك عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وضعف روسيا.
كان الوضع الاستراتيجي سيّئاً للغاية آنذاك، وكان الجيش الأمريكي يتدرّب على الهبوط مباشرة في إيران والإطاحة بالنظام على غرار ما فعله في العراق.
لكن الآن، تم طرد القوات العسكرية الأمريكية من كامل محيط إيران تقريباً؛ فلم يتبقَّ في محيطها القريب سوى 2500 جندي متمركز في العراق وبضع مئات في سورية، مع ضغوط متزايدة لانسحابهم (بما فيها الاستهداف المتكرر لقواعدهم)، وانسحبت قوات أمريكا من أفغانستان وضعف نفوذها فيها، وكذلك بالنسبة للقوات غير المعلنة في باكستان وآسيا الوسطى وجنوب القوقاز. بدأ ساسة الخليج يشعرون بأنّ الدور قادم عليهم لتدميرهم وبلدانهم بعد تواطئهم لعدّة سنوات في إشعال سورية والعراق واليمن. تركت سلسلةٌ من التغييرات القواعدَ العسكرية الأمريكية أضعفَ في المنطقة بعد «التحوّل إلى الشرق» الذي بدأ بتغيير توزيع القوات الأمريكية في عهد إدارة أوباما. إذا ما قارنّا الوضع الحالي لإيران بما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً، لأدركنا أنّ إيران قد حققت نصراً تدريجياً في اللعبة الاستراتيجية الإقليمية. وهو النصر الذي مهّد الطريق لاتفاقيّاتها التالية مع القطب الذي يحارب الهيمنة الأمريكية، سواء في مجال النفط، كالاتفاق الذي يمتدّ لـ25 عاماً مع الصين، أو الاتفاقيّات التكنولوجيّة والبنى التحتيّة للتجارة والنقل مع روسيا.
- هل حقّاً «الإسرائيليّون» يخسرون رغم كلّ الدمار الذي يخلّفونه؟
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، غيّرَ «طوفان الأقصى» وما تلاه الكثيرَ في العالَم أجمَع، لا في الشرق الأوسط فحسب؛ علماً بأنّ هذا التأثير لا يُفسَّرُ بشكل أحاديّ الجانب كأنّه «أثر فراشةٍ» ميتافيزيقيّ يستطيع فيه المحلّيُّ اختراعَ ميزان قوى عالَميٍّ، بل هو نتيجةٌ للتفاعل الديالكتيكيّ بين العالَمي والإقليميّ والمحلّي، ضمن ميزان القوى العالمي القائم بالفعل، وإغناءً له، ضدّ قطب الإمبريالية ولمصلحة قطب الشعوب وتحرّرها، بكلّ تعقيده وأبعاده بدءاً بالاقتصاديّ (الحاسم في نهاية المطاف) فالسياسيّ والعسكري والثقافي والأيديولوجيّ... وهذا التغيُّر لا رجعة عنه. والآن، ستحدِّدُ نتيجةُ المعركة بين «إسرائيل» وحزب الله ما سيحدث في كامل الشرق الأوسط لسنوات طويلة جداً قادمة. إنّ بقاء «إسرائيل» قائمةً كـ«دولة» عنصرية متفوّقة تكنولوجياً وعسكرياً على محيطها، واستمرارها بالتالي في لعب دور «الحصان» المتقدّم للإمبريالية العالمية، محكومٌ في الحقيقة بنتائج هذه المعركة. تعاني «إسرائيل» اليوم من معضلة استراتيجية: حتّى يتمكن الكيان من البقاء متفوقاً، عليه أن يؤمّن لسكّانه ومستوطنيه الحدّ الأدنى من الأهداف التي رفَعَها: الأمان وعدم قدرة المقاومة على ضرب المستوطنات والثكنات.
لكن، وكما هو واضح للجميع، ومع كلّ التألُّم على الشهداء والمصابين، تمكنت المقاومة الفلسطينية في غزة من تمريغ الأسطورة العسكرية «الإسرائيلية» في الوحل. الآن، إذا قبل «الإسرائيليون» بالهزيمة التي بدأت في غزة، سيعني ذلك أنّ على السلطات «الإسرائيلية» - الحالية وأيّ سلطة مستقبلية - أن تجيب على مَن يسألها من «الإسرائيليين»: طالما أنّكم عاجزون عن حمايتي عسكرياً، فإمّا أن تلتزموا بمعاهدةٍ تسمح بإقامة دولة فلسطينية حقيقية وتتصالحوا مع دول الجوار لتضمنوا لي الأمان (وهذا لا يمكن ضمانُه بالتطبيع مع الاحتلال بل بإنهائه)، وكذلك عدم ارتفاع الأسعار الحاد بسبب الحرب، أو أنني سأترك هذه الأرض وأهرب للخارج.
هذا في الواقع ليس مبالغة، وليس أمراً بعيد الحدوث، فالتقارير عن عدد المغادرين تثبتُه؛ نشرت صحيفة هآرتز «الإسرائيلية» منذ عدّة أشهر أنّ واحداً من كلّ أربعة «إسرائيليين» يهود يودُّ مغادرة «إسرائيل» إذا سنحت له الفرصة. بينما يصبح الرقم واحداً من كلّ عشرة للعرب من الذين يعيشون داخل «إسرائيل». بالنسبة لـ«دولة» أعلنَ قادتها - بغضّ النظر عن صدقهم - بأنّ أسباب انسحابهم من غزة هو «إبقاء الأغلبية من اليهود»، وواقع حالها اليوم يقول بأنّ عدد اليهود فيها بالكاد يبلغ نسبة 78.6%، مع إغفال الأعداد الهائلة التي تحمل جنسيات مزدوجة وتعيش خارج «إسرائيل»، فهذا السيناريو كارثيّ ويمكن أن يؤدي للانهيار.
يمكننا أن نفهم من هذا المنطلق أنّ الجيش «الإسرائيلي» ليس لديه الكثير من الخيارات بعد أن استثمر بالفعل كلّ هذه الموارد، وفتح الجبهة اللبنانية في محاولة الهرب من الخسارة في غزة. وهذا يفسّر الوحشية التي ينتهجها، ويذكرنا بتصرفات الأصيل (الولايات المتحدة) في فيتنام قبل أن تتم هزيمة قوّاتها وإجبارهم على الهرب.
أمّا بالنسبة للولايات المتحدة، فلا يبدو أنّ لديها الكثير لتقدّمه لكيانها وبيدقها العزيز حال اندلاع حرب أكبر. إنّ القوات المتحركة للولايات المتحدة باتت محدودة للغاية؛ في نهاية الحرب الباردة، نشر الجيش الأمريكي 500 ألف جندي وحافظ على 6 حاملات طائرات لحرب الخليج، أمّا اليوم فلديه 31 فرقةً قتالية متاحة فقط، ولا يزال عدد حاملات الطائرات التي يمكن استخدامها في العمليات الطويلة الأجل أقل من 3. والحد النظري للقوات التي يمكن نشرها في الشرق الأوسط أقل من رُبعِ ما كان عليه في حرب الخليج.
يعلّمنا التاريخ أنّ جميع المستعمرين كانوا عند اقتراب هزيمتهم يواجهون هذه الصعوبات أثناء الصراع مع حركات المقاومة، وربّما الأكثر صِلةً وحداثة: المستعمرون الفرنسيون في الجزائر، الذين فرّوا بالآلاف قبل عامٍ من الاستقلال، والعنصريّون البيض في جنوب إفريقيا، الذين تركوا فراغاً في الوظائف والمهن لا يمكن لأيّ دولة أن تستمرّ بالبقاء بعد حدوثه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1195