شركات التكنولوجيا الكبرى والاحتكار الرَّقمي
في كل بلد تقريباً على وجه الأرض، أصبحت البنية الأساسية الرقمية التي بُني عليها الاقتصاد الحديث مملوكة لقلة قليلة من الشركات الرأسمالية الاحتكارية الكبرى، التي تتخذ من وادي السيليكون في الولايات المتحدة مقراً لها. وتعمل احتكارات التكنولوجيا الكبرى في القرن الحادي والعشرين على السيطرة على كل المساحات الرقمية التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي. في هذا المقال يتناول بين نورتون، المحرّر الرئيس لموقع «تقرير الاقتصاد الجيوسياسي»، تفاصيل حول الموضوع.
ترجمة (بتصرّف): قاسيون
في كل بلد تقريباً على وجه الأرض، أصبحت البنية الأساسية الرقمية التي بُني عليها الاقتصاد الحديث مملوكة لقلة قليلة من الشركات الرأسمالية الاحتكارية الكبرى، التي تتخذ من وادي السيليكون في الولايات المتحدة مقراً لها. وتعمل احتكارات التكنولوجيا الكبرى في القرن الحادي والعشرين على السيطرة على كل المساحات الرقمية التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي. في هذا المقال يتناول بين نورتون، المحرّر الرئيس لموقع «تقرير الاقتصاد الجيوسياسي»، تفاصيل حول الموضوع.
يجب على كل شركة أخرى - ليس فقط الشركات الصغيرة، بل حتى الشركات الكبيرة نسبياً - أن تدفع جزء من إيراداتها كريعٍ لهذه الشركات الرأسمالية الاحتكارية (الإمبريالية). بحسب دراسة أجرتها شركة التجارة الإلكترونية Marketplace Pulse، تستحوذ أمازون على أكثر من 50% من إيرادات البائعين على منصتها. ارتفعت حصة أمازون من إيرادات البائعين بشكل مطرد من نحو 35% في عام 2016 إلى ما يزيد قليلاً عن النصف اعتباراً من عام 2022.
في الواقع، تحدد أمازون الأسعار في الأسواق من خلال استخدام «مربّع الشراء» سيّئ السمعة. تزيل المنصة زرّ البيع إذا باع المستخدم منتجاً بسعر أقل من الأسعار المعروضة على الصفحات المنافسة. تستخدم نسبة مذهلة تتراوح بين 82% و90% من المشتريات على أمازون مربع الشراء. فإذا لم تعتمد إحدى الشركات السعر الذي تريده أمازون، فلن تتلقى مربع الشراء، وستنخفض مبيعاتها.
كان المحتكر في القرن العشرين يسيطر على إمدادات بلد ما من الثلاجات على سبيل المثال. لكن شركات التكنولوجيا الكبرى في القرن الحادي والعشرين تخطو خطوة أبعد من ذلك وتسيطر على كامل البنية الأساسية الرقمية اللازمة لشراء تلك «الثلاجات» ــ من الإنترنت نفسه إلى البرامج، والاستضافة السحابية، والتطبيقات، وأنظمة الدفع، وحتى خدمة التوصيل.
إن هؤلاء اللوردات الجدد لا يسيطرون على سوق واحدة أو عدد قليل من الأسواق المرتبطة بها فحسب، بل إنّهم يسيطرون على كامل السوق، وبوسعهم خلق وتدمير أسواق بأكملها. إنّ سيطرتهم الاحتكارية لا تقتصر على بلد واحد، بل تمتد إلى العالم أجمع تقريباً. لاحظ فاروفاكيس (اليساري اليوناني والوزير الأسبق) أن أمازون لا تهيمن على السوق فحسب، بل إنّها تخلق الطلب على منتجات لم يكن العملاء يعرفون حتى بوجودها، من خلال التلاعب بخوارزميتها. وبالتالي، يمكنها خلق وتدمير الأسواق.
إذا نجح أحد المنافسين في صنع منتج جديد، فإن احتكارات شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة قد تجعله يختفي. تخيّل أنك رجل أعمال: تقوم بتطوير منتج، وتصميم موقع ويب، وعرض بيعه عبر الإنترنت. لكن بعد ذلك تبحث عن المنتج الجيد على Google، ولا يظهر. بدلاً من ذلك، يوصي Google بمنتج آخر مشابه في نتائج البحث.
هذا ليس افتراضياً، هذا يحدث بالفعل. تفعل أمازون الشيء نفسه تماماً: فهي تروّج لمنتجات «أمازون برايم»، وتهدد بإخراج البائع الأصلي من العمل. وكما ذكرت وكالة رويترز في عام 2021: «تكشف مجموعة من الوثائق الداخلية لشركة أمازون كيف أدار عملاق التجارة الإلكترونية حملة منهجية لإنشاء سلع مقلدة والتلاعب بنتائج البحث لتعزيز خطوط منتجاته». ثبت حدوث هذا في الهند، لكن البائعين في دول أخرى اتهموا أمازون بالقيام بالشيء ذاته.
إن أمازون أقوى مما كان ليتصوره أي بارون في القرن التاسع عشر. إنّها تفرض رسوماً باهظة على البائعين الذين يبيعون سلعاً على منصتها، وهي سلع لم يكن لأمازون أيّ علاقة بصناعتها، كما يمكنها نسخ منتجاتها وإنتاج نسختها الخاصة إذا بدت مربحة.
إنّ المشكلة أعمق بكثير من أمازون. إذ تستخدم شركة آبل، أكبر شركة على وجه الأرض من حيث القيمة السوقية «بقيمة سوقية تبلغ 3.41 تريليونات دولار اعتباراً من الأول من أغسطس/آب 2024»، العديد من التكتيكات المشابهة.
في حين تستخلص أمازون أكثر من 50% من عائدات البائعين الذين يستخدمون منصتها، فإنّها تستطيع على الأقل أن تحاول تبرير ذلك بالقول إنّ هذه الرسوم الباهظة تشمل تكاليف الإعلان و«التنفيذ» من تخزين ومعالجة وتسليم وما إلى ذلك. من ناحية أخرى، تفرض شركة Apple رسوماً مذهلة قدرها 30% على جميع المشتريات التي تتم في التطبيقات التي يتم تنزيلها من متجرها.
وبعبارة أخرى، إذا قام مستخدم آيفون أو آيباد أو ماك بتنزيل تطبيق تابع لجهة خارجية من خلال متجر التطبيقات، فإن آبل تطلب ريعاً بنسبة 30% مقابل العمل الذي تقوم به تلك الشركات الأخرى. وهذا على الرغم من حقيقة أن آبل لا علاقة لها بهذا العمل. فالشركات الأخرى تدير التجارة وتحافظ على تطبيقاتها، وآبل ليست أكثر من «لورد جديد» يطالب بـ«جِزيته».
لا تقدم شركة آبل أي خدمة مهمّة، فهي ببساطة تسمح للناس بتنزيل تطبيق لا تديره بنفسها. كل ما تفعله آبل هو استضافة التطبيق، لا أكثر. لكن لأنّها تحتكر، يمكن لشركة آبل أن تأخذ 30% من العائدات التي يتلقاها المبدعون مقابل عملهم الشاق، ناهيك عن أنّ هؤلاء المبدعين يدفعون أحياناً لشركات احتضان أخرى هي التي تستخدم متاجر آبل.
كيف أصبحت هذه الاحتكارات قويّة إلى هذه الدرجة؟
بدأ كل هذا بشركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة مثل غوغل وميتا التي تقدم خدمات «مجانية»، والتي يتم دفع ثمنها من خلال بيع معلومات المستخدمين. وسرعان ما أصبحت هذه المنصات «المجانية» احتكارات، وأصبحت راسخة في الاقتصاد إلى الحد الذي جعلها تتحول إلى مرافق رقمية، وإن كانت مخصخَصة.
كان اقتصاد القرن العشرين في حاجة إلى مرافق عامة مثل شبكة الكهرباء ومحطات المياه وشبكات الصرف الصحي والطرق السريعة وما إلى ذلك. كان الصراع قائماً، وما يزال، حول أن تكون هذه الحاجات الضرورية احتكارات خاصّة أو أن تكون مملوكة للقطاع العام فتقدمها الدولة باعتبارها «سلعاً عامة»، وذلك لمنع الشركات المالكة من البحث عن الريع.
إن اقتصاد القرن الحادي والعشرين يحتاج إلى كل هذه المرافق الأساسية بالإضافة إلى البنية الأساسية الرقمية الجديدة. ولكن إليكم الأمر: كل البنية الأساسية الرقمية الضرورية التي تقوم عليها اقتصاداتنا أصبحت مخصخَصة!
الاحتكار السَّحابيّ، أرباح مِن «الغَـيم»
هناك أيضاً البنية التحتية السحابية التي تستخدمها التطبيقات ومواقع الويب، والتي يهيمن عليها عدد قليل من الشركات الأمريكية في الغالب. حيث استحوذت أمازون على 31% من حصّة السوق السحابية العالمية اعتباراً من الربع الأول من عام 2024، تليها مايكروسوفت بنسبة 25%، وغوغل بنسبة 11%. تسيطر هذه الشركات الثلاث الأمريكية الكبرى على 67% من سوق الحوسبة السحابية في العالم. وهذا يشكّل نوعاً من الاحتكار الخانق للإنترنت نفسه.
إذا كنت ترغب في إنشاء شركة صغيرة، فمن المؤكد أنك ستفلس بسرعة كبيرة إذا لم تستخدم أمازون لبيع منتجك، أو متجر تطبيقات آبل أو متجر غوغل بلاي لتنزيل تطبيقك، أو فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب لتسويق سلعتك أو خدمتك، أو واتساب للتواصل.
والآن بعد أن أصبحت احتكارات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة راسخة في نسيج الاقتصاد العالمي، مع غياب أيّ منافسين تقريباً، فإنها تعمل على رفع ريعها. ويحدث هذا في كل مكان، باستثناء الصين، حيث كان قادة الحزب الشيوعي هناك حكماء بما يكفي لإدراك أن عليهم تطوير البنية التحتية الإلكترونية الخاصة بهم، لحماية سيادتهم الرقمية، حتى لا يصبحوا خاضعين تماماً للاحتكارات الأمريكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1193