الخطوة 2: حرمان أوروبا من توجيه الطاقة نحو التصنيع
في 25 يوليو/تموز، نشرت صحيفة لوفيجارو الفرنسية رسالة مفتوحة من أعضاء مجموعة «بروميثيوس Prometheus» التحليلية التي تحوي شخصيات فرنسية بارزة، يطالبون فيها حكومة ماكرون بتنفيذ عملية إعادة التصنيع في فرنسا على غرار ما يحصل في روسيا.
ترجمة: قاسيون
عارض أعضاء مجموعة بروميثيوس بشدة استثمارات الشركات الأمريكية مايكروسوفت وأمازون في بناء مراكز البيانات في فرنسا. نحن نتحدث هنا عن مشروعين أمريكيين كبيرين ضمن سلسلة مشاريع كبيرة أخرى: تخطط مايكروسوفت لاستثمار أربعة مليارات يورو في بناء مراكز البيانات في فرنسا، وتعتزم شركة الخدمات اللوجستية العملاقة أمازون استثمار 1.2 مليار يورو في الخدمات السحابية والخدمات اللوجستية لتوصيل الطرود، بما في ذلك مراكز البيانات هذه.
جاء في الرسالة المفتوحة: «يجب أن نكون واضحين: نحن لا نقوم بإعادة التصنيع إلى البلاد من خلال إنشاء مستودعات، سواء لتخزين البيانات أو المواد الغذائية. هذه ليست صناعة. الحديث عن الصناعة يعني، سواء شئنا أم أبينا، الحديث عن إنتاج المواد. سيكون من المستحسن استهداف الإنتاج الأكثر استراتيجية، وبعبارة أخرى، إنتاج السلع الرأسمالية الضرورية للإنتاج نفسه… هذا ما يجعل من الممكن أن نفهم كيف يمكن لروسيا أن تصمد اقتصادياً، مع ناتج محلي إجمالي مماثل للناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا، وذلك في ظلّ ظروف الحرب المكلفة وعقوبات واسعة النطاق يفرضها الغرب. هذا وضع لا يمكن لأي دولة أوروبية، ولا حتى ألمانيا، أن تتحمله… التفسير، هو أنّ الاقتصاد الروسي لا يزال أكثر تركيزاً من الاقتصادات الغربية على الإنتاج الصناعي، الذي لا يزال يمثّل أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي الروسي، مقارنة بـ 27% في ألمانيا و17% في فرنسا».
أضافت الرسالة المفتوحة المنشورة في صحيفة لوفيغارو، وهي الصحيفة التي تنتمي إلى التكتل الإعلامي المملوك للمجموعة الصناعية العسكرية «داسو Dassault»: «فرنسا، غير القادرة على إنتاج الأسبرين أو الأقنعة أو الأصداف أو الطائرات بدون طيار أو الآلات، ستعتمد بشكل كامل على الاختيارات التي يتخذها شخص آخر في مكان ما. وحتى ألف «مركز بيانات» لن يغير أي شيء». إنّ التلميح العلني للرسالة إلى السياسة الداخلية المؤيدة لأمريكا التي ينتهجها الرئيس الفرنسي ماكرون هو بمثابة ضربة قاضية.
يقف خلف شركتي مايكروسوفت وأمازون أكبر صندوق استثماري أمريكي في العالم: «بلاك روك»، الذي باع له ماكرون كل ما يمكنه بيعه في فرنسا. أشارت أليسيا ميلورادوفيتش Alesya Miloradovich، الموظفة في أكاديمية باريس للجغرافيا السياسية: «لقد باع ماكرون فرنسا لرأس المال الأمريكي، وجلب أكبر صندوق استثماري: بلاك روك إلى البلاد، وحصل على لقب «رئيس» بلاك روك فرنسا».
يُعدّ إنشاء مراكز بيانات قوية في فرنسا لدعم تشغيل تطورات الذكاء الاصطناعي الأمريكية مفيداً للغاية للولايات المتحدة. مركز البيانات، أو مركز معالجة البيانات «DPC»، هو مبنى لإيواء الخادم ومعدّات الشبكة وتوصيلها بالإنترنت. لتخزين ومعالجة المعلومات وضمان تشغيل الانترنت دون انقطاع، هناك حاجة إلى خوادم قوية. لكي تعمل أجهزة الخادم دون أعطال، وتستمر لأطول فترة ممكنة، يجب توفير الظروف المناسبة لها. الغرض الرئيسي من مراكز البيانات هو تهيئة البيئة اللازمة لاستضافة الخوادم: مع الرطوبة المثلى ودرجة الحرارة والتشغيل المتواصل، بالإضافة إلى تزويد المستخدمين بإمكانية الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة.
الطاقة وكثافة الاستخدام وتوجيهه
في عصر 5G والتخزين السحابي، أصبحت مراكز البيانات بمثابة معدات البنية التحتية الحيوية، حيث تدعم كل شيء، بدءاً من المعاملات المالية، وصولاً لوسائل التواصل الاجتماعي والعمليات الحكومية. تتطلّب مراكز البيانات إمدادات مستمرّة ومستقرّة من الطاقة لتشغيلها. ووفقاً «لإدارة معلومات الطاقة EIA»، فإنّها تمثّل اليوم أكثر من 1% من الاستهلاك العالمي للكهرباء.
أدّى النمو الهائل في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي القوية بشكل متزايد إلى زيادة كبيرة في إنشاء مراكز البيانات واستخدامها. وذلك لأنّ تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي يستهلكُ الكثير من الطاقة، حيث إنّها تستهلك الطاقة بشكل أسرع بكثير من أنشطة مراكز البيانات التقليدية. يشير ديفيد بورتر، نائب رئيس «معهد أبحاث الطاقة الكهربائية»: على سبيل المثال: يستهلك الطلب الذي يتمّ تقديمه إلى ChatGPT طاقة أكثر بعشر مرات من الطلب الذي يتمّ تقديمه إلى محرّك البحث Google. كما يشير بورتر إلى أنّ الذكاء الاصطناعي يستهلك حالياً ما بين 10% إلى 20% فقط من طاقة مراكز البيانات في الولايات المتحدة، لكنّ هذه الحصة «ستزداد بشكل كبير» في المستقبل.
يتطلب تدريب روبوت الدردشة GPT-4 أكثر من 50 جيجاوات/ساعة، وهو ما يمثّل حوالي 0.02% من الكهرباء التي تنتجها كاليفورنيا سنوياً، وأكثر بـ 50 مرّة ممّا يتطلبه تدريب GPT-3، الجيل السابق من روبوت الدردشة. وجدت دراسة حديثة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن مركز بيانات واحد يستهلك ما يعادل استهلاك 50 ألف أسرة من الكهرباء.
يتفاقم هذا الاستهلاك الزائد للطاقة بسبب المنافسة الشرسة بين شركات تكنولوجيا المعلومات الرائدة، حيث تسعى كلّ منها إلى إنشاء أقوى نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية. تتضاعف تكلفة الطاقة الحاسوبية اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي كل تسعة أشهر، ولا يُظهر معدّل النمو أي علامة على التباطؤ. تتوقّع «إدارة معلومات الطاقة EIA» أنّه في غضون عامين، سوف تستهلك مراكز البيانات الأمريكية كمية الطاقة نفسها التي تستهلكها السويد أو ألمانيا. يوجد اليوم 5381 مركز بيانات في الولايات المتحدة الأمريكية، و521 في ألمانيا، و514 في المملكة المتحدة، و449 في الصين.
تتوقّع شركات الطاقة الأمريكية زيادة حادّة في الطلب على الكهرباء في المدى القريب جداً، مدفوعة بالتطوّر الهائل لمراكز البيانات، وأسواق الذكاء الاصطناعي التوليدية. وفقاً لـ Datacenter Dynamics، يقوم العديد من موّردي الطاقة في أمريكا اليوم بمراجعة النفقات الرأسمالية لمراعاة الطلب المتزايد من مراكز البيانات.
مع ذلك، فمن الواضح أن قدرة قطاع الطاقة الأمريكي لن تتمكن من مواكبة النمو الهائل في الطلب على الكهرباء، المرتبط بثورة الذكاء الاصطناعي، والنمو الهائل المرتبط بها في الطلب على مراكز البيانات. ولذلك عبر نقل القدرات الرئيسية لمراكز البيانات إلى أوروبا يضرب الأمريكيون عصفورين بحجر واحد.
أولاً: تحصل أمريكا على الفرصة لتوجيه موارد الطاقة لديها لدعم عملية إعادة التصنيع التي بدأت لديها.
ثانياً: أوروبا محرومة من فرصة تنفيذ إعادة التصنيع بسبب نقص الكهرباء، والتي سيتعين إنفاق المتاح منها على دعم مراكز البيانات التي بناها الأمريكيون. في الوقت نفسه، فإن السيطرة على مراكز البيانات التي بنتها شركة بلاك روك في أوروبا، ستضمن الأولوية للتطوير الأمريكي لنماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة على حساب الجهود الأوروبية في هذا المجال.
قررت الولايات المتحدة شنّ هجوم للطاقة على أوروبا من فرنسا، حيث توجد شبكة قوية من محطات الطاقة النووية، ورئيس مطيع تماماً لواشنطن. يكتب مؤلفو الرسالة الجماعية في صحيفة لوفيجارو، أنّه إذا لم تكن الجمهورية الخامسة صناعية، فإنّ «حتى ألف مركز بيانات» لن يلغي اعتماد البلاد على الخارج. إنّ مراكز البيانات الأمريكية المخطط بناؤها في فرنسا تغلق تماماً نافذة الفرصة لإحياء الصناعة الفرنسية، وتؤدي إلى تفاقم اعتماد البلاد على الولايات المتحدة بشكل خطير.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1186