الغرب والوصف «بالإرهاب»: كلام الليل يمحوه النهار!
كريستوف سيدو كريستوف سيدو

الغرب والوصف «بالإرهاب»: كلام الليل يمحوه النهار!

يكفيك أن تستمع لوسائل الإعلام الغربية وإلى رجال السياسة غربيي الهوى – الرسميين منهم وغير الرسميين، وهم يتحدثون عن الإنسانية وقيام الفلسطينيين وحركة حماس «بقتل المدنيين»، وحقّ «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، ليدهمك الشعور بنوع من إعياء تناول «جرعة زائدة» من القيم الفارغة التي يبيعها هؤلاء كأنّهم قوّادون على ناصية طريق. لكن الذي يثير السخرية أكثر ممّا يثير الحنق، أنّ قيم ومواقف هؤلاء تصبح قابلة للتبدل والتغيير بحسب الحاجة، وبحسب القدرة على إبقائها. إن كان لنا أن نثبت ذلك بأقلّ الكلمات، فعلينا العودة إلى مواقفهم «الصارخة» من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

ترجمة: أوديت الحسين

لم يستطع الذين كانوا يصفون نيلسون مانديلا بأنّه «إرهابي أسود»، إيقاف عجلة التاريخ التي أسقطت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. والذين وزعوا قيمهم الفارغة في ذلك الوقت على الملأ، اضطرّ من أتوا بعدهم للملمة كلماتهم وتجميلها بل ومحاولة إخفائها وحذفها بعد سقوط نظام الفصل العنصري الذي دعموه. في الحقيقة، ليس من المفارقة بقدر ما هو من عِبَرِ التاريخ، أنّ من ينجح في كسر طوق الجلاد وانتزاع حريته بالقوة، قد أدرك بتجربته أنّ إهانات أسياد الجلاد، ووصفه «بالإرهابي» «واللا إنساني» وغيرها لن تمنعه من الانتصار، بل فقط سيحاولون تشويه هذا الانتصار قبل أن يضطروا مجبرين على تقبله والتعامل معه كحقيقة وأمر واقع.
عندما أعلن رئيس جنوب إفريقيا جاكوب زوما خبر وفاة نيلسون مانديلا، قام رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين ديفيد كاميرون بنشر تغريدة قال فيها: «لقد انطفأ نور عظيم في العالم. كان نيلسون مانديلا بطلاً في عصرنا». وكان في حينه أول رئيس حكومة أجنبية يعبّر علانية عن تعازيه عن وفاة مانديلا. لكن قبل 26 عاماً من ذلك، تحدثت مارغريت تاتشر، سلف كاميرون وزميلته في الحزب، بشكل مختلف تماماً عن المناضل المناهض للفصل العنصري وحركة التحرير التابعة لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، حيث قالت في 1987: «حزب المؤتمر الوطني الإفريقي منظمة إرهابية نموذجية. أي شخص يعتقد أنّه قادر على حكم جنوب إفريقيا منهم يعيش في أرض الوقواق في الغيوم».
ترك هذا الحديث بصماته على مانديلا، فعندما سافر إلى لندن بعد إطلاق سراحه في 1990، رفض في البداية مقابلة تاتشر. ثم تساءل النائب المحافظ في لندن تيري ديكس «إلى متى تريد رئيسة الوزراء فعلاً السماح لهذا الإرهابي الأسود بركلها في الوجه (بإهانتها)؟». أمّا حكومة الولايات المتحدة في عهد رونالد ريغان فكانت أكثر تساهلاً تجاه النظام العنصري. في عام 1980 أضافت الولايات المتحدة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يتزعمه مانديلا إلى قائمتها للمنظمات الإرهابية. وعندما أقرّ الكونغرس الأمريكي القانون الشامل لمكافحة الفصل العنصري في 1986 بدعم من الديمقراطيين والجمهوريين، والذي فرض عقوبات اقتصادية وقيوداً على السفر ضدّ حكومة جنوب إفريقيا ودعا إلى إطلاق سراح مانديلا، استخدم ريغان حق النقض ضده، ولم تصبح المسودة قانوناً إلى في المحاولة الثانية.
أحد أعضاء الكونغرس الأمريكي الذين صوّتوا ضد إطلاق سراح مانديلا مرتين كان نائب الرئيس الأمريكي المستقبلي ديك تشيني. قال تشيني بعد 20 عاماً، «كان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي يعتبر منظمة إرهابية في ذلك الوقت، وليس لديّ أي مشكلة على الإطلاق مع قراري». لم تقم الولايات المتحدة بإزالة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من قائمتها للمنظمات الإرهابية إلا في عام 2008.
كانت علاقات دولة «إسرائيل» أيضاً وثيقة مع نظام الفصل العنصري. بعد أن قطعت جميع الدول الإفريقية تقريباً علاقاتها مع الدولة اليهودية بعد حرب تشرين/أكتوبر عام 1973، أصبحت جنوب إفريقيا واحدة من أهم شركاء «إسرائيل». وفي عام 1976، سافر رئيس وزراء جنوب إفريقيا آنذاك جون فورستر، وهو الرجل الذي كان متعاطفاً مع النظام النازي في الحرب العالمية الثانية، إلى القدس في زيارة رسمية. استقبله رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إسحاق رابين مع مرتبة شرف كاملة. قال رابين خلال المأدبة الرسمية: «إنّ إسرائيل وجنوب إفريقيا تشتركان في المثل العليا نفسها، الأمل في العدالة والتعايش السلمي». وصف الكتاب السنوي الرسمي لحكومة جنوب إفريقيا العلاقة بين الدولتين في عام 1976: «هناك شيء واحد مشترك بين [إسرائيل] وجنوب إفريقيا، إنّهما يعيشان في بيئة معادية بين أناس داكنين».
يُقال بأنّه على هامش هذه المحادثات، اتفقت الحكومتان على التعاون العسكري. وحتى يومنا هذا لا تزال هناك أقاويل مستمرة بأنّ «إسرائيل» ساعدت جنوب إفريقيا على تطوير أسلحة نووية. لطالما نفت «إسرائيل» هذه الإشارات، ومع ذلك يتذكر الناشطون المناهضون للفصل العنصري «الإسرائيليون» حتى يومنا هذا دعم «إسرائيل» لنظام جنوب إفريقيا الحاكم. بعد إطلاق سراحه من السجن، قال مانديلا وهو يتذكر، «تلقيت دعوات من كل دولة في العالم تقريباً – باستثناء [إسرائيل]». لم يسافر مانديلا إلى «إسرائيل» إلّا في عام 1999، قبل وقت قصير من انتهاء فترة ولايته في منصبه. وقال وزير الخارجية دانييل ليفي حينها، «نحن فخورون جداً بأنّ هذا الرجل يزورنا».
لكن ليس الأمريكيون و«الإسرائيليون» هم فقط من دعموا نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فالأوروبيون بدورهم كانوا يدعمون ذلك النظام أيضاً. في عام 1988، كان زعيم الاتحاد الاجتماعي المسيحي آنذاك، فرانز جوزيف شتراوس، ضيف شرف على وزير الخارجية الجنوب إفريقي بيك بوتا. قال شتراوس في ذلك الوقت بأنّ إلغاء الفصل العنصري كان «غير مسؤول»، كما أنّ المساواة للأغلبية السوداء «غير مرغوب بها». ورفض عقد اجتماعات مع ممثلي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وأثناء ظهوره أمام المضيفين في القاعة الفارهة قال وهو يصرخ: «لم أواجه قط خلال 40 عاماً من حياتي السياسية مثل هذه المعاملة غير العادلة والظالمة لبلد ما كما يحدث في جنوب إفريقيا». كتب الصحفي يورغن لينمان في حينه بأنّ زيارة شتراوس كانت بتكليف من المستشار الألماني هيلموت كول الذي أراد أن يعتبر رحلة شتراوس إلى جنوب إفريقيا دليلاً على «أننا لا نثير الأمور هناك... تمتزج لمسة من المأساة الشخصية مع الكثير من البشاعة لتخلق قطعة سخيفة من السياسة الخارجية الألمانية».
عبّر هورست سيهوفر، خليفة شتراوس، عن نفسه بشكل مختلف تماماً عن سلفه في عام 2013. بمناسبة وفاة نيلسون مانديلا، قال رئيس وزراء ولاية بافاريا «إننا نحزن مع جميع مواطني جنوب إفريقيا على فقدان رئيس عظيم وشخصية جديرة بالإعجاب. في هذه الساعة التاريخية لميلاد جنوب إفريقيا الجديدة، رحل نيلسون مانديلا الذي أصبح رجل دولة محترماً أدخل وطنه الأم إلى مجتمع الشعوب الحرة».

بتصرّف عن:
«Dieser schwarze Terrorist»

معلومات إضافية

العدد رقم:
1145
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 21:25