أسباب الحرب الأهلية الأمريكية تعود اليوم للظهور
قمت مع فريقي البحثي ببناء قاعدة بيانات كبيرة لتحليل الأزمات السياسية المتكررة، وخرجنا بأنّ هناك سببين بارزين لعدم الاستقرار أهمّ من جميع الأسباب، الأول، انتشار الحرمان الاجتماعي الناجم عن تناقص الثروة في مناطق سكنية واسعة، والثاني هو فرط إنتاج «النخبة»، أي عندما ينتج مجتمع ما عدداً كبيراً جداً من المتعلمين تعليماً عالياً ولا يوجد ما يكفي من وظائف لتلبية طموحاتهم. في الولايات المتحدة وعلى مدى الخمسين عاماً بات هذان العاملان شديدَي الوضوح، حيث أصبح الأثرياء أكثر ثراء، بينما ركدت الدخول والأجور لدى الأسر الأمريكية من الطبقة الوسطى. نتيجة لذلك أصبح الهرم الاجتماعي الأمريكي مثقلاً في القمة، حيث بات لدى الولايات المتحدة وفرة من الخريجين الحاصلين على درجات علمية متقدمة. يتطلّع المزيد من الناس إلى مناصب السلطة والتنافس على عدد ثابت نسبياً من الوظائف، وهذه المنافسة تقوّض الأعراف والمؤسسات الاجتماعية التي تحكم المجتمع الأمريكي. مرّت الولايات المتحدة قبل ذلك مرتين بمواقف مماثلة، أحدها انتهى بالحرب الأهلية، والآخر بالحرب العالمية.
ترجمة: أوديت الحسين
لنحاول فهم الأسباب الجذرية للمشكلة: في 1983 كانت 66 أسرة أمريكية تمتلك ثروة تزيد عن عشرة ملايين دولار، ثمّ في عام 2019 ازدادت ثروة هؤلاء عشرة أضعاف، وازداد عدد الأسر التي تبلغ ثروتها 5 ملايين دولار أو أكثر سبعة أضعاف. في ظاهر الأمر لا يبدو وجود المزيد من الأثرياء أمراً سيئاً، لكن على حساب من راكمت النخبة الثروة في السنوات الأخيرة؟
ابتداءً من السبعينات، ورغم أنّ الاقتصاد الكلي استمرّ بالنمو، بدأ متوسط نصيب العامل من المكاسب في التقلّص، وركدت الأجور الحقيقية. ليس من قبيل الصدفة أنّ مؤشّر طول الإنسان في الولايات المتحدة، وهو مؤشر مفيد للرفاهية والاقتصاد، قد أصيب بدوره بالركود خلال الفترة ذاتها، حتى مع استمرار ارتفاع معدلاته في معظم أنحاء أوروبا. بين بداية الألفية و2010 انخفضت الأجور النسبية للعمّال غير المهرة إلى النصف تقريباً مقارنة بمنتصف القرن العشرين. بالنسبة لـ 64٪ من الأمريكيين الذين لم يحصلوا على شهادة جامعية لمدى أربعة أعوام، تقلصت الأجور الحقيقية في العقود الأربعة الماضية التي سبقت عام 2016. ومع تضاؤل الأجور ترتفع تكلفة امتلاك منزل والذهاب إلى الكلية. من أجل شراء منزل كان على العامل متوسط الأجر في 2016 أن يعمل ساعات أكثر بنسبة 40٪ مقارنة بعام 1976، ويتعين على الآباء أن يعملوا أربع مرات أطول لدفع مصاريف الجامعة لأبنائهم.
حتّى الأمريكيون الحاصلون على تعليم جامعي لم يكن الأمر سهلاً عليهم. كان أداؤهم جيداً حتى خمسينيات القرن الماضي عندما التحق أقلّ من 15٪ من الطلاب بالجامعة. لكن اليوم ومع أكثر من 60٪ من خريجي الثانوية مسجلون في الجامعات، باتت المنافسة على الوظائف التي لم يتغيّر عددها نسبياً أشدّ بكثير ممّا كان عليه الحال قبل خمسين عاماً. المنافسة المعتدلة في المجتمع تفضي إلى التنمية، لكنّ المنافسة بين النخب الأمريكية المتعلمة اليوم تتجاوز بكثير حدود ما هو مناسب. إنّه الجانب المظلم من «الجدارة» التي تخلق أغلبية من الخاسرين الحانقين، والتي تؤدي إلى عمل جاد أقل وطرق ملتوية أكبر. كلّ هذا يجعلنا أمام مجموعة كبيرة من النخب المتعلمة المحبطة المصممة على تسلّق السلم، ومجموعة كبيرة أخرى من العمّال الذين لا يستطيعون بناء حياة أفضل بأيديهم.
المشتركات مع الحرب الأهلية
تشترك العقود التي أدّت إلى الأزمة الاجتماعية الحالية في أوجه تشابه مهمة مع العقود التي أدّت إلى الحرب الأهلية. في ذلك الوقت أدّى الاقتصاد المتنامي إلى جعل الأغنياء أكثر ثراء، والفقراء أعدادهم أكبر. يزيد الفقر المنتشر من حدة التوترات الاجتماعية. بين عامي 1820 و1825 عندما كان الاقتصاد جيداً، كان هناك اضطراب واحد فقط أدى إلى وفاة شخص واحد على الأقل. لكن في السنوات الخمسة التي سبقت الحرب الأهلية، بين 1855 و1860 شهدت المدن الأمريكية ما لا يقل عن ثمانية وثلاثين اضطراباً من هذا القبيل. نرى نمطاً مشابهاً للتطور اليوم. عشية الحرب الأهلية تجلى الإحباط السياسي بشكل جزئي في شكل شعبوية معادية للمهاجرين.
كما تتصاعد أيضاً الاشتباكات بين النخب الاقتصادية. جنى المليونيرات الجدد في القرن التاسع عشر أموالهم من خلال التصنيع بدلاً من المزارع أو التجارة الخارجية. انزعجوا من القواعد التي وضعتها طبقة ملاك العبيد في الجنوب بسبب مصالحهم الاقتصادية المنقسمة. لحماية صناعاتهم الوليدة، أرادت الشركات تعرفات جمركية عالية ودعماً من الدولة لمشاريع البنية التحتية. عارضت نخبة المال القديم- الذين كانوا يزرعون ويصدرون القطن ويستوردون السلع المصنعة من الخارج- هذه الإجراءات بشدة. كانت سيطرة مالكي العبيد الجنوبيين على الحكومة الفدرالية قد منعت الإصلاحات المطلوبة في أنظمة البنوك والنقل، ما أدّى إلى تهديد رفاهم الاقتصادي. وكما هو الحال اليوم، انتقل تشابك المصالح هذا بشكل عنيف إلى مؤسسات الحكم، سواء عبر الاتهامات ومحاولة التصفية السياسية، وصولاً إلى العنف الذي نأخذ منه المثال الأكثر شهرة حين قام نائب عن ساوث كارولينا بضرب سناتور من ماساتشوستس في مجلس الشيوخ، أو توجيه المسدسات في وجه بعضهم البعض. أنذر الاشتباك والعنف داخل دوائر النخب الاقتصادية بالعنف الأوسع والأكثر دموية في التاريخ الأمريكي.
«المترجم: في قصور لدى المؤلف اعتبر بأنّ فترة منتصف الخمسينيات من القرن الماضي هي نهاية جيدة للأزمة الأمريكية خلافاً للحرب الأهلية بشكل منفصل تماماً عن الحرب العالمية الثانية، وقد سمّاها (فترة الازدهار)، متجنباً الحديث عن الحرب وتأثيراتها الإيجابية على النمو الاقتصادي الأمريكي، وانتقال الرأسمالية من طور إلى آخر وانتقال مركز الثقل الرأسمالي إلى الولايات المتحدة بشكل كلي، ولكن سنورد بعض ما قاله لأهميته في توصيف الصراع بين النخب والعمّال وقدرة العمّال على انتزاع المكاسب في فترة ما بعد الحرب كجزء من الصراع الطبقي القائم».
في 1929 جاء انهيار بورصة نيويورك والكساد العظيم مع تأثيرات مشابهة لتلك التي خلفتها الحرب الأهلية. لكن هناك اختلافات بين الحقبتين، فعلى عكس حقبة ما بعد الحرب الأهلية ارتفعت الأجور الحقيقية بشكل مطرد في منتصف القرن العشرين، وبلغت معدلات الضرائب على سلم الدخل الأعلى ذروتها عند 94٪ خلال الحرب العالمية الثانية وظلت أعلى من 90٪ حتى منتصف الستينيات. نما المواطن الأمريكي العادي بارتفاع بطول ثلاث بوصات، ما يعكس الرفاه.
كانت الطبقة الحاكمة نفسها في الجزء الأكبر منها قادرة على فهم مدى أهميّة الرضوخ للإصلاحات التقدمية في تلك الحقبة. قال رئيس غرفة التجارة الأمريكية «وهي التي تروج اليوم لأشد أشكال أصولية السوق النيوليبرالية»: «فقط أولئك الذين يتظاهرون بعدم الرؤية لا يمكنهم رؤية اختفاء الرأسمالية القديمة والبدائية الحرة». كتب الرئيس إيزنهاور وهو الذي كان يعتبر محافظاً مالياً في منصبه، إلى شقيقه قائلاً: «إذا حاول أي حزب سياسي تفكيك الضمان الاجتماعي والتأمين ضدّ البطالة وقوانين العمل والبرامج الزراعية، فلن تسمع عن هذا الحزب مرة أخرى في تاريخ السياسة. بالطبع هناك مجموعة صغيرة منشقة تعتقد أنّه يمكنك القيام بهذه الأشياء، لكن أعدادهم لا تذكر وهم أغبياء».
بتصرّف عن:
America Is Headed Toward Collapse
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1127