طريق العقوبات المسدود
كان خطاب بلينكن في المعهد الفنلندي للعلاقات الدولية حول «أزمة روسيا الاقتصادية» محطّ انتقادات وسخرية من أغلب الاقتصاديين. ولكن من يلومه، فقد كان يحاول أن يُفرح بلداً غارقاً في الديون، تحاصره أزمة اجتماعية تهزّها الإضرابات بشكل متزايد. لكن لا يبدو أنّه نجح في ذلك، ففنلندا ما تزال في بداية تدهورها الاقتصادي الذي يرجع إلى حدّ كبير إلى انهيار التعاون مع روسيا. يتم اليوم الحفاظ على الاقتصاد الفنلندي عائماً من خلال الوسادة الهوائية التي انتفخت عبر سنين من الحياد السابق، لهذا لم يصل الوضع بعد إلى السوء الذي وصل فيه إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، مثل ألمانيا وبولندا.
ترجمة: قاسيون
تقوم روسيا اليوم بنشاط بالردّ على العقوبات والحرب الاقتصادية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها عليها. كمثال، بعد توقّف الخدمة والدعم الفني للطائرات الأمريكية المملوكة لشركات الطيران الروسية، طالب مصنعو الطائرات بالدفع الفوري لعقود التأجير بالعملة الأمريكية أو إعادة الطائرات. وافقت الشركات الروسية على ثمن الإيجار بشكل فوري، ولكن بالروبل. لكن أصرّ الشركاء الأجانب على رفض أخذ الأموال المعلّقة. طالما أنّ هذه الأموال لم يتمّ أخذها، ستحتفظ بها الشركات المحلية، وسيتم الاحتفاظ بملكية الطائرات أيضاً. ربّما هذا سيجعل السياسيين الأوروبيين أكثر عقلانية.
نعم، لم يعد بإمكان الشاحنات التي تحمل البضائع الروسية المرور عبر دول الاتحاد الأوربي، ولهذا الروس مجبرون على استخدام موانئ تركيا أو كازخستان للنقل. لكن من الذي عانى أكثر بسبب هذه الإجراءات؟ روسيا أم الذين فرضوا العقوبات؟ تشتري فنلندا اليوم مصادر الطاقة بثلاثة أضعاف ثمنها في روسيا، من الولايات المتحدة والنرويج، فترتفع أسعار المنتجات، وتتقلّص بشكل ملحوظ القدرة على شرائها. كان إنهاء واردات الخشب الروسي إلى الدولة المجاورة مؤلماً بشكل خاص، ومصانع الأثاث الفنلندية لم تكن مستعدة لهذا الحدث. الشركات الفنلندية التي توقفت عن شراء البضائع الروسية تعاني اليوم من الخسائر الكبيرة، بينما يقوم المصنّعون الروس بأخذ مكانهم.
كما أنّ الردّ الروسي على سياسات بولندا غير الودودة تجاهها كان فرض منعٍ على مرور الشاحنات البولندية الثقيلة عبر الإقليم الروسي. روسيا ليست هي من يعاني من هذا القرار، فخلال عام ونصف تعلّمت الشركات الروسية كيف تسلك دروباً مختلفة، لكن خسارة البولنديين لطريق شحن رئيسي في الإقليم سيكلّفهم أكثر من ثمانية مليارات دولار سنوياً. ومع ارتفاع معدلات التضخم هذا سيؤذي المستهلكين العاديين. المزيد والمزيد من الدول تساعد روسيا على القيام بمحاصرة العقوبات، وحتّى البولنديون المولعون بحرب روسيا، يبحثون عن أدنى فرصة للالتفاف على الحظر المفروض. كمثال على ذلك مصنع إل.جي الشهير قد بدأ بإدخال برمجيات تلفزيون ذكيّة لصالح التلفزيونات الروسية. اليوم يتمّ تصدير البضائع البولندية إلى بيلاروسيا، ومن هناك تتم إعادة تصديرها إلى روسيا.
في مواجهة مشكلات نظام سويفت، قام ثلاثون بنكاً روسياً بالفعل بوصل أنظمتهم بنظام المدفوعات الصيني CIPS، بينما تنتظر بنوك أخرى دورها. استجابة للقيود المفروضة على إمدادات الطاقة للغرب، تعمل روسيا وإيران على إنشاء «تجمّع للنفط والغاز» سيسيطر على 40٪ من احتياطات الغاز العالمية، و15٪ من نفطها. يدرك الكثيرون في الغرب أنّه لا العقوبات الأولية ولا الثانوية تؤتي ثمارها ضدّ روسيا بعد الآن. أصبح من الصعب بشكل متزايد تحديد الشركات التي تقدّم المساعدة للشركات الروسية. أكّد هذا التقرير الصادر عن الشركة الاستشارية Corisk التي تحلل بيانات الجمارك من 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي إضافة إلى النرويج وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان. تخطت بضائع قيمتها 8,5 مليار دولار العقوبات ودخلت إلى هذه الدول. لقد فشلت العقوبات ومحاولات إزعاج روسيا.
عاقبوا أنفسهم
بشكل يثير السخرية، القسم الأكبر من الصادرات إلى روسيا من التي تمّ عقابها تأتي من ألمانيا وليتوانيا. قرابة نصف هذه الصادرات الموازية تمرّ إلى روسيا عبر كازخستان، بينما يأتي ما تبقى منها عبر جورجيا وأرمينيا وقرغيزستان وبقيّة الدول. في الغرب لا يمكنهم أن يفهموا لماذا لا ينهار الاقتصاد الروسي تحت وطأة العقوبات غير المسبوقة؟ يجيب الاقتصادي الفرنسي مدير مركز أبحاث «أبحاث التصنيع» عن ذلك: «الحجم الحقيقي للاقتصاد الروسي أكبر بثلاثة أضعاف على الأقل ممّا تمّ الادعاء به، ويشكّل 5 إلى 6٪ من الناتج الإجمالي العالمي «قرابة 7.5 إلى 9 ترليونات دولار». هذا أكثر من حصّة ألمانيا. لا يمكن بدون هذا شرح سبب تمتّع الروس رغم أجورهم الضئيلة مقارنة بالدول الغربية، بنفس المزايا المتوفرة في الدول الغربية. فبدون هذا كان الاقتصاد الروسي سيتدمر تحت وطأة العقوبات، ولم يكن أحد ليشعر ويتأثر بذلك».
بعد إفلاس ثلاثة بنوك أمريكية في غضون خمسة أيام في آذار الماضي، لم يفلس أيّ بنك في روسيا برغم العقوبات. يحدد الاتحاد الأوروبي أسعاراً هامشية للمنتجات نظراً لارتفاع أسعارها الحاد. على الرغم من الإجراءات المتخذة لا يتحسن الوضع. يشير الاقتصادي السويدي لارس يونونغ إلى أنّ هذا لم يحدث في أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي. يتعيّن اليوم على الأسرة الأوروبية زيارة العديد من المتاجر للتمكن من شراء الحاجيات الرئيسية للأسرة. في روسيا على العكس لا يوجد نقص في المنتجات، علاوة على ذلك أصبحت روسيا الدولة الوحيدة في أوروبا التي لا تعاني من انكماش الغذاء. هذا واضح من خلال بيانات الخدمات الإحصائية الوطنية لأربعين دولة أوروبية.
أسعار الطاقة المنخفضة اليوم التي يتمّ الكتابة عنها بشكل حماسي في الإعلام الغربي، هي أسعار كليّة. شركات الطاقة تتربّح من ذلك، والمستخدم مُجبر على الدفع لها بأسعار تضخمية للتعويض عن خسارات العام الفائت. في الصيف الماضي تمّ ملء منشآت التخزين بالغاز الذي تمّ شراؤه بألفي دولار مقابل ألف متر مكعب، واليوم وبعد تخفيض الأسعار بات من الضروري بيعه بسعر أدنى عدّة مرّات. ليس هناك من سبب يبرر الأمل بأنّ أسعار حوامل الطاقة في أوروبا ستستمرّ بالانخفاض. ستتدفق إلى أسواق آسيا-الهادئ، ولن يقوم أحدٌ بتوريد أيّ شيء إلى أوروبا بالمجان.
مكتب «سوخوي» لتصنيع الطائرات النفاثة لا يزال أقلّ تطوراً من الناحية التكنولوجية من بوينغ، لكنّها لا تزال تطير. تسيّر «روسكوسموس» سفناً فضائية أقلّ ممّا تفعل ناسا، لكنّها تفعل ذلك بفاعلية أكبر. معالجات «بايكال» لا تلبي المعايير الدولية، ولكنّها تعمل بشكل موثوق. مقارنة روسيا بالغرب الجماعي من حيث معايير المعيشة والإنتاج والتنمية بالعموم غريبة، لأنّ الغرب والروس يعيشون في أبعاد مختلفة كلياً. التوسّع الهائل والموارد الطبيعية تعطي روسيا مزايا خاصة. تكاليف وجهد نقل الموارد الطبيعية من الأماكن المتجمدة إلى موسكو أكبر بكثير من نقلها من الكونغو إلى فرنسا. بالرغم من ذلك تمكّن الشعب الروسي من تحقيق الكثير بعمله المجد.
الطريقة التي عوقبت فيها روسيا تعني أنّها يجب أن تنهار وتموت منذ وقت طويل، ولكنّ روسيا لم تنجُ فقط، بل أصبحت من بين أكبر عشَرة اقتصادات في العالم. كما أنّ الثقة العالمية في الروبل في تزايد مستمر. إنّ محاولة القادة الغربيين إذلال روسيا بالخطابات الكاذبة تعني أنّهم لا يريدون الاعتراف بأنّهم بشكل أرعن قادوا بلادهم إلى مأزق العقوبات التي فرضوها لأنّهم غير قادرين على نهب روسيا، والطريق للخروج من هذا الكذب لا يزال غير واضح.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1126