الذكاء الاصطناعي بعرق عمّال الجنوب العالمي
خلال الحقبة الاستعمارية، لعبت عمالة البشر في المستعمرات دوراً حيوياً في خلق الثروة لصالح القوى الاستعمارية. بالرغم من ذلك لم يتم تعويض الناس في المستعمرات عن استغلالهم ومعاناتهم، ولم يتم الاعتراف بدورهم الحيوي في تكوين الثروة لصالح الغرب. اليوم، مع انتشار الوظائف الرقمية في جميع أنحاء «الجنوب العالمي»، بتنا نرى شيئاً مشابهاً لما حدث في الحقبة الاستعمارية.
ترجمة: أوديت الحسين
لا يمضي أسبوع دون أن نسمع عن اختراق تكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن للخوارزميات «الذكيّة» أن تؤدي الوظائف التي كان البشر يقومون بها فيما مضى. لكن وبالرغم من اللغة المنمّقة التي تستخدمها شركات تكنولوجيا المعلومات، فالآلات ليست بالذكاء الموصوف، ولا يمكنها أن تفكّر لوحدها. يقول باحث التكنولوجيا ماكسيميليان غانتز: «تشبه خوارزميّة التعلّم الآلي غير المدربة سيارة رياضية دون عجلات، فمظهرها جميل لكنّها غير قادرة على الانتقال إلى أيّ مكان، ولهذا هي بلا نفع». تتطلّب هذه الآلات صوراً دلالية وعمالة بشريّة كي «تعلّم» الذكاء الاصطناعي كيفيّة العمل.
تقوم أغلب شركات التكنولوجيا الغربية بالاستعانة بالبشر في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب شرق آسيا من أجل القيام بأعمالها الرقمية. توفّر هذه الدول الفقيرة عمالة رخيصة للشركات الغربية. نتحدّث هنا عن شركات مثل فيسبوك وغوغل ومايكروسوفت وياهو وأمازون، والشركات الفرعية والأصغر التي تقدّم لها المعلومات والبيانات.
ترتبط الاستعانة بمصادر خارجية للعمل الرقمي في الجنوب العالمي، ارتباطاً وثيقاً بممارسات العمل الاستغلالية التي تستخدمها الشركات الأجنبية بشكل عام. السبب الذي أدّى إلى انتشار العمل الرقمي في هذه الدول هو تدني الأجور، وظروف العمل القاسية، والعزلة، والتفاوت الهيكلي في الدخل العالمي، والافتقار إلى آليات المحاسبة العالمية.
المؤكد أنّ العمّال الرقميين في الجنوب العالمي لا يكسبون إلّا جزءاً شديد الضآلة من الأرباح الناتجة عن قوّة عملهم. كمثال حققت شركة Samasource التي تخدم عملاء مثل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت وياهو، أرباحاً بقدر 19 مليون دولار أمريكي عام 2019. ورغم أنّ هذا المبلغ في حدّ ذاته ليس قدراً كبيراً من المال عند مقارنته بما تكسبه الشركات التي تخدمها Samasource، ولكن العمّال في الشركة لا يكسبون أكثر من 8 دولارات أمريكية في اليوم. على الرغم من أنّ 8 دولارات يومية قد تكون أجوراً هامّة في مناطق محددة من الجنوب العالمي، إلّا أنّه لا يزال هناك تباين هائل بين ما يكسبه هؤلاء العمّال الرقميون وما تحققه الشركات الغربية من أرباح بسبب عملهم.
تعاني معظم الدول التي يعمل فيها العمّال الرقميون من معدلات فقر مرتفعة، ممّا يوفر احتياطات كبيرة من العمّال الذين يقبلون بالوظائف منخفضة الأجر. في كينيا كمثال، يعيش حوالي 36٪ من سكانها تحت خط الفقر الدولي. في أوغندا، وهي مركز تكنولوجي آخر في جنوب الصحراء الكبرى، هناك 28٪ من إجمالي 44 مليون نسمة يعيشون في الفقر. في الهند، وهي وجهة رئيسية أخرى للاستعانة بمصادر عمالة خارجية، يعيش 68٪ من أصل 1,3 مليار شخص في الفقر. إنّ وجود احتياطي كبير من العمّال العاطلين عن العمل، أو الذين يعملون في أعمال سيئة، يمنح الشركات الأجنبية اليد العليا في إملاء شروط التوظيف.
لا يقتصر الاستغلال على الأجور المنخفضة، فالعاملون في قطّاع البيانات هو عمل «ممل» و«مكرر» و«لا ينتهي». يواجه العمّال ضغوطاً للعمل بسرعة من أجل تحقيق أهداف الشركة، ممّا يؤدي إلى فترات راحة أقل. حتّى عندما يكون بعض العاملين ممّن يعملون من المنزل، يخضعون للمراقبة المستمرة من كاميرا الويب لمراقبتهم باستمرار، الأمر الذي يضعهم تحت إجهاد العمل الذي يؤذي الجسد والعينين.
وجدت دراسة أجريت في قطّاع البيانات وتوسيمها في خمسة بلاد إفريقية بأنّ العمّال يواجهون عزلة كبيرة في العمل، بمعنى أنّهم لا يعرفون ما هو الغرض أو الهدف النهائي من عملهم. عندما سُئل أحد هؤلاء العمّال عن سبب قيامه بوضع وسوم للصور أجاب: «لم يخبروني، يريدون مني فقط وضع علامات كثيرة على الصور»، ويعلّق باحثو الدراسة بالقول: «إنّ مطلب الاستمرار في العمل لساعات يترك إجهاداً كبيراً على العينين والجسم».
الإرهاب العمّالي
بصرف النظر عن مدى توافر العمالة الرقمية، فالعمال من العديد من البلدان في الجنوب العالمي يؤدون بشكل متزايد هذا العمل المؤذي للغاية، وأبرز أمثلته هو عمل الإشراف على محتوى وسائط التواصل الاجتماعي – وهو العمل الذي توفره غالباً نفس الشركات من الغرب. في نيروبي التي أصبحت مؤخراً مركزاً رقمياً، لدى Samasource مكتب هناك للإشراف على محتوى فيسبوك. يجلس في المكتب حوالي 200 موظف أمام شاشات الكمبيوتر يتعيّن عليهم مشاهدة مقاطع الفيديو عن جرائم القتل والاغتصاب والانتحار والاعتداء الجنسي على الأطفال. يصبح هؤلاء العمّال كمن يعمل في خطوط الجبهة الأمامية لصالح الشركات ليزيلوا هذا النوع من المحتوى في هذه المنصات قبل أن يراها المستخدم العادي.
ورغم العمل المجهد الذي يقوم به هؤلاء العمّال على المستوى الجسدي والنفسي، لا تدفع لهم Samasource سوى 1,50 دولار في الساعة. قال أحد الموظفين بأنّ العمل الذي يقوم به بمثابة «تعذيب نفسي. لا يمكنني أن أدّخر ولا حتى سنتاً من عملي، ولهذا أفكّر كثيراً بالاستقالة لكن بعد ذلك أسأل نفسي: ما الذي سيأكله أطفالي إذا استقلت وبقيت دون عمل؟». يشتكي الموظفون من عدم السماح لهم بأخذ فترات استراحة. في العموم هناك بيئة من القمع والترهيب الدائم للعمّال الرقميين في الجنوب العالمي. كمثال، تمّ فصل دانيال موتونج أحد موظفي شركة Samasource من وظيفته على الفور لمحاولته ملء أوراق نقابية، ووجهت له اتهاماً قيامه بإجراء من شأنه أن يعرّض «العلاقة بين Samasource وفيسبوك لخطر كبير».
أصبح الجدل حول استغلال العمالة الرقمية من الجنوب العالمي والربح المفرط منها جزءاً من النقاش حول الاستعمار الرقمي، حيث يلاحظ الكثير من العلماء والناشطون أنّ ممارسات الاستغلال في العمل التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، مستمرة إلى يومنا هذا وتؤدي إلى تفاوت الثروة حول العالم. فبالإضافة إلى العرض المفرط للعمالة الرخيصة في الجنوب العالمي، هناك ظاهرة القوانين الضعيفة. المشكلة هناك كما عبّر عنها العمّال الرقميون أنفسهم، أنّه في حال تقديم قوانين أشد لتنظيم سوق العمل، سيشجّع الشركات على البحث عن أماكن ودول أخرى لنقل الوظائف إليها، ويؤدي إلى إضعاف تنافسية العمّال في البلدان ذات القوانين الأفضل. هذا ولم نتطرّق إلى الفساد في هذه الدول الذي يعطي للشركات الغربية ووكلائها اليد الطولى على حساب العمّال.
التحدي الآخر الذي يواجهه العمّال في الجنوب العالمي هو زيادة المنافسة وإخراجها من نطاقها المحلي والوطني، إلى منافسة بين العمّال في كامل الجنوب العالمي. نتيجة لارتفاع معدلات الفقر والبطالة، ونشر الوظائف وأدائها عبر الإنترنت، بات يتعيّن على العمّال القبول بأجور وظروف عمل سيئة كي لا يفقدوا فرصة العمل، الأمر الذي يجعلهم يعملون ضدّ بعضهم البعض على مستوى عالمي. وطالما أنّه لا توجد آليات يمكن تسميتها «اتحاد عمّال رقميين عالمي» من شأنه حماية العمّال وتمثيلهم، فسيبقى السباق نحو القاع قائماً، ويسمح للشركات الغربية بالاستفادة وإدامة التفاوتات الهيكلية في سوق العمالة العالمي بسهولة.
بتصرّف عن:
Global labor chains of the western AI
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1126